أفلاممراجعات

Green Book .. رحلة مُذهلة إلى أعماق الإنسانية

طرحت شركة “Dream Works” أحدث إنتاجاتها السينمائية العام الماضي، فيلم الدراما “Green Book”، الذي حاز العديد من الترشيحات والجوائز العالمية، أهمها فوزه بجائزة الأوسكار كأفضل أفلام العام و”جائزة الجمهور” في فعاليات مهرجان تورنتو السينمائي الدولي في دورته الأخيرة، وجائزتي الأوسكار وغولدن غلوب لأفضل نص أصلي، وأفضل ممثل مساعد “ماهرشالا علي”.

الفيلم يتطرق إلى فترة الستينات التي طغت فيها العنصرية والعرقية والتمييز بين الأجناس، حيث تجري أحداثه بين أمريكي من أصول إيطالية وعازف بيانو أمريكي من أصول إفريقية في رحلة إلى أقصى الجنوب الأمريكي، وسط العديد من المواقف العنصرية والإنسانية والكوميدية أحياناً.

الفيلم يحمل العديد من المعاني والمواقف الإنسانية والإسقاطات السياسية التي ساعدت على إيصال رسالة مخرجه بيتر فاريلي، الذي حرص على تقديم هذه الفترة بشكل مختلف، على الرغم من تقديمها سابقاً في أكثر من عمل سينمائي مؤخراً، أبرزها فيلم “12 Years a Salve” عام 2012.

 

‏قصة الفيلم بسيطة لكنها تحمل في طياتها أسئلة كثيرة. العازف العالمي “تشيرلي” بصدد القيام بجولة فنية للعزف في عدة ولايات ومناطق أميركية، ويلزمه لذلك سائق متفرغ مدة شهر تقريباً، وعلى الدكتور العازف أن يستقبل المتقدمين واحداً واحداً ليختار بنفسه من يرتاح إليه لكي يُسند إليه مهمة القيادة، ورغم قسوة كلمات “توني” وعدم التفكير طويلاً في عباراته، وحيث أن قبضته تسبق لسانه، شعر العازف بالارتياح له، واختاره بعد أن اتصل بزوجته وسألها إذا كانت قادرة على فراق زوجها شهراً كاملاً فوافقت وقبضت مبلغاً تصرف فيه على بيتها ريثما يعود “توني” من مهمته، التي غلب عليها الأكل الكثير، وكذلك ضرب من يسيء فهمه، إضافة إلى القدرة على تغيير نمط حياة وقناعات “تشيرلي” من خلال مواقف أقرب إلى غسل القلوب.

 

 

دائماً أفضل الحديث عن عناصر تكوين الفيلم فرادى، وأبدأ من أقوى إيجابياته، من وجهة نظري بالتأكيد، وهذا العمل البطل فيه هو قصّته بالتأكيد، والتي ترصد مراحل نشأة شاب، مختلف نسبياً عن أقرانه، ويمر بظروف عصيبة.

‏تكمن عبقرية القصة في الرسائل الخفية، وفي البعد الدرامي ورسم الشخصيات لأبطال العمل. هي قصة واقعية تشعر أنك قرأتها أو شاهدتها من قبل، ولكنها تتميز بالأمل المبثوث في كافة نواحيها، في القدرة على التحول من شخص منطوٍ يخشى الجميع، ربما بسبب الاضطهاد الذي طغى على نشأته وجعل منه شاذاً، إلى مسيطر على حياته، في أحداث متتابعة بسلاسة، ومتدرجة بانضباط.

المخرج بيتر فارلي

المخرج هو بيتر فارلي الذي اعتاد تقديم أفلام كوميدية خفيفة من نوعية “There’s Something About Mar” و”Me, Myself & Irene”. أما الفيلم فهو “كتاب أخضر Green Book” الذي تجمع بطولته النجمين فيجو مورتنسن وماهرشالا علي.

‏وعلى عكس المتوقع؛ لا يستند السيناريو إلى عمل أدبي أو أصل سابق تناول القصة، بل كتبه مباشرة للشاشة نيك فاليلونيا، ابن بطل الحكاية ذي الأصل الإيطالي، بمشاركة المخرج بيتر فارلي والممثل بريان كوري الذي يظهر في الفيلم بدور صغير.

يبدأ الفيلم بتقديم شخصية طوني، الحارس الأبيض في أحد الملاهي الليلة في نيويورك، والذي يمتلك بعض الحيل التي اكتسبها من سنوات العمل، لكنه في المقابل عنيف، مندفع، منخفض الذكاء، لديه كل السمات الهابطة، ويعتنق كل الأفكار الساذجة والصور النمطية التي يمكن أن يمتلكها أمريكي إيطالي في ستينيات القرن العشرين: الذكورة المفرطة، النهم المبالغ فيه، العاطفية الشديدة، والأحكام السطحية على البشر وفقاً لأعراقهم، بما يتضمن احتقار الملونين، وبالطبع لم يكن يدرك بهذه القناعات بأنه مجرد نسخة أخرى ممن حوله.

‏قناعات طوني الراسخة تهتز عند مقابلة دون شيرلي أو “الدكتور” كما ينادونه بسبب حصوله على الدكتوراة في الموسيقى من الاتحاد السوفيتي. شيرلي فنان عالمي، يتحدث عدة لغات بطلاقة، يتكلم الإنجليزية الكلاسيكية بطريقة اللوردات، متأنق طيلة الوقت، مثقف جداً ولبق، يتعامل مع العالم بحذر، ولا يفعل أي شيء كان يتوقعه طوني منه وفقاً لتصوره عن الملونين. يكفي أنه لا يسمع موسيقى الجاز، ولم يأكل في حياته ولو قطعة من دجاج كنتاكي. كان شيرلي استثناءً لا بد من وجوده لتحريك المياه الراكدة، لكن من قال أن حياة الاستثنائيين تسير بسلاسة ودون مشكلات؟

“مهما حدث ومهما تعرضتما له، عليك أن تجعله يصعد إلى المسرح في موعده”. يقولها منظم الجولة الموسيقية للدكتور، ويقبلها طوني بعقله البسيط وثقته المتناهية في نفسه، دون أن يتصور معنى خوض رحلة في جنوب الستينيات مع رجل زنجي، في الوقت الذي كان من الطبيعي فيه أن يلعب شيرلي على المسرح فيسمعه الحضور البيض ويستمتعون به، ثم يمنعونه من الذهاب لنفس المرحاض معهم لأنه ملوّن.

– لهذا نُحب هوليوود

الموقف السابق هو أبسط ما يتعرض له بطلا “كتاب أخضر”، وهذا الكتاب بالمناسبة هو دليل منحهُ منظم الجولة لطوني ليرشده إلى الفنادق والمطاعم الجنوبية التي تستقبل زبائن ملونين، والذي يتحول إلى إحدى الموضوعات العديدة التي أجاد الفيلم استخدامها: قطع اكسسوار يتم توظيفها داخل الحكاية ومنحها معنى وقيمة تساهم في دفع الصراع إلى أعلى والأحداث إلى الأمام، أداء يستحق ترشيح الأوسكار من بطلي الفيلم، حوار مكتوب بخفة ظل واضحة يضم عدة عبارات تعلق في الذهن، وسيناريو مكتوب على الطريقة الهوليوودية الكلاسيكية، يزرع كل شيء بهدوء ليعود فيحصده بعد الوصول لنهاية يمكن توقعها، فما الذي يمكن أن ينتهي عليه فيلم كهذا إلا أن يصير الرجلان صديقين ويتغلبا على متاعب الرحلة معاً؟. إلّا أن السؤال هنا لن يكون “ما النهاية” وإنما: “كيف سنصل لهذه النهاية”. وطريق الوصول هنا يعد درساً في صناعة الفيلم الهوليوودي الكلاسيكي: القصة محكمة البناء، الأبطال الفاعلين، الاختيار المتميز للممثلين، وضبط إيقاع الأحداث بما يلائم النوع. هذه هي الأسباب التي صنعت شعبية هوليوود بل وشعبية السينما في كل مكان بالعالم، وكون الصياغة الهوليوودية باتت وصفاً سيئ السمعة نتيجة الابتذال في عشرات الأفلام الساذجة، فإن صناع السينما الأمريكية يفاجئوننا كل فترة بفيلم كهذا يعيد الاعتبار للسينما الكلاسيكية، ويذكّرنا بسر وقوعنا في غرام هوليوود قديماً.

“كتاب أخضر” ليس مجرد فيلم عن العنصرية، وإنما هو حكاية عن الصداقة بالأساس، الصداقة بين رجلين لم ينل أياً منهما الفرصة في حياته للاستماع إلى لآخر، فلمّا أجبرتهما الظروف عليها، اكتشف كل منهما في قرينه السمات ذاتها: الشهامة والنبل وخفة الظل والشجاعة حتى في أحلك الظروف. وعند بلوغ هذا المستوى من الفهم يغدو الحديث عن كل ما يفرق البشر عبثياً، لا يستحق أكثر من سخرية طوني وسبابه اللاذع.

– إيقاع بطيء لابدّ منه

هناك من رأى الفيلم مملاً في بدايته، إلا أنني بعد مشاهدته وجدت أن كل ما قُدم في البداية كان تمهيداً ضرورياً لما وصل إليه العمل في النهاية، فلم أجد لقطة واحدة غير مبررة. ربما كان الإيقاع بطيئاً نوعاً ما إلا أنه مفهوم، فلكي تشعر بروعة التغيير الحاصل بالتدريج مع مرور الأحداث لابد لك أن تتفهم البداية بكل تفاصيلها أولاً.

 

‏بالإضافة إلى ما يقدمه لنا الفيلم من جمل حوارية موظفة بعناية، لدعم الفكرة الإنسانية للفيلم، فقد كان الأداء الجسدي والحركي لبطليه متوّجاً بتفاصيل داعمة للكلمات المكتوبة، والحالة المعروضة على الشاشة، فمع ذلك الأداء الحركي المميز تستطيع أن تتعرف بسهولة على طبيعة الشخصيات قبل الاستماع لكلماتها المؤثرة.

 

بقلم: فهد علي

تدقيق لغوي: وفاء الحربي

About Author

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.