أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : ثانية واحده

كتابة: ساري

دقيق لغوي: وفاء الحربي

 

1

 

يستيقظ في صباح روتيني، يزيح الستارة ويتفقد النافذة.  إلّا أنه لا ينفّك يصادف ذات النتيجة؛ شمس ملعونة أخرى غير مرحب بها تملأ البيت ضياءً مزعجاً. ينهال عليها بالشتائم المعتادة، بلامبالاة واضحة، وكأن هذه التحية أصبحت تقليداً من نوعٍ ما، وشعائر يبدأ بها يومه. يمشي إلى الحمام بحذر شديد، لاعناً نفسه مع كل أثر تلحقه خطواته بأرضية المنزل. يحلق شعر وجهه كاملاً مع رأسه، مغلقاً عينيه حتى لا يرى مدى التحول الذي اعترى وجهه أثناء نومه. ثم يفرش أسنانه بقوة وعنف شديدين، حرصاً على عدم تراجعها عن نسبة البياض المعتادة. يعيد أدواته، برفق شديد، إلى أماكنها المخصصة، قبل أن يخرج من الحمام ويبدأ مراسم التحقق اليومية: يلف البيت كاملاً متفقداً  كل الأواني والأطباق، ويحرص على أن تكون في مكانها الصحيح. ينظفها جيداً ويعتني بها، ثم يقضي ما تبقى من اليوم في تأمل الشيء الوحيد المعلق على جدار بيته؛ ساعة كبيرة سوداء، تحدث صوتاً مع كل ثانية تلغيها من الوجود، وتجعلها من الماضي. يراقب الساعة، ويعد الثواني معها آملاً أن يتحقق المستحيل ويسبق الساعة، ولو لثانية واحدة فقط، ذلك أن تلك الثانية التي يحلم بامتلاكها تعد مؤشراً جيداً على احتمالية التغلب على القدر، وإيقاف المستقبل الحتمي، ولكن تلك الثانية لم تأتِ أبداً، وهو نفسه يعرف أكثر من أي شخص آخر بأنها لن تفعل. ومع ذلك فالأمل هو كل ما تبقى لديه، والرفض وتكرار المحاولة هما الحل الوحيد.

بعد انتهاء اليوم، يغادر لينام في سريره، المرتب منذ الصباح، آملاً كل الأمل، داعياً بكل الدعوات، مستخدماً كل وسائل التمني؛ ألّا تنتهي الليلة، وألّا يأتي الصباح، وأن يفتح النافذة في اليوم التالي، ولا يرى الشمس. ثم ينام، كطفلٍ رضيع، مقتنعاً بأن هذا ما سيحصل، وأنه سينجح هذه المرة، ولكن كالعادة؛ لا ينجح أبداً، فها هو يستيقظ صباح اليوم التالي، وبينما يشرع في ممارسة نشاطاته الروتينية المعتادة تُعلن في كل المحطات التلفازية أخبار سيئة؛ تقارير عن إعصار هائل، قادرٌ على اجتثاث الأشجار من عروقها وتدمير المنازل والمُنشآت، قادمٌ في الطريق. أوامر تنص على إخلاء المواطنين في الحال، ولكنه يرفض التحرك، فهذا تغيير هائل يفوق مقدرته على التحمل. إنه بداخله يعرف أنه لن يستطيع العيش مع تغير بهذا الحجم يقتحم حياته، ولذلك يصر على البقاء.

“اللعنة على الرحيل، سأنقذ منزلي. لن تسقط آنية واحدة، ولن ينكسر شيء ما دمت موجوداً”.

وصل الإعصار. اقتحم المنزل، فبدأت الأواني بالاهتزاز . جرياً بأقصى طاقته؛ يعيد كل آنية، قبل السقوط، إلى موضعها. ولكن لم يدم هذا طويلاً، فقد بدأ الإعصار بالسيطرة، فتساقطت الأواني، واحدة وراء الأخرى. عبثاً حاول إعادتها إلى مكانها، بهيئتها المدمرة، أملاً في إصلاحها مستقبلاً، ولكن البيت كله قد بدأ في الانهيار بالفعل. النوافذ تتهشم، الطاولات والكراسي تتكسّر، وأرضية المنزل يطمرها الزجاج والتراب والحطام، وبالرغم من أن عقارب الساعة قد توقفت عن إصدار أي صوت، إلا أن التغيرات لم تتوقف مطلقاً، وإنما استمرت متسارعة، وفي غمرة هذا كله، ومع محاولاته اليائسة لإنقاذ ما تبقى من ممتلكاته؛ فقد كل أمل في إيقاف ما يحدث.

كانت التغيرات سريعة جداً، أسرع من أن يستوعبها عقله. عجز عن تحمّل هذا الكم المرعب منها فتوقف، في منتصف المنزل، جامداً بلا حراك. يحدق في ساعة الحائط، بعينين جامدتين، وكأنه يطلب منها أمنية أخيرة: تلك الثانية التي لطالما حلم بها، ولكن الساعة كانت قد توقفت عن العمل بالفعل، فلم تمنحه ما يريد. وفي وسط هذا الخمول القاتل بدأ السقف يتهاوى، ثم سقط على الجسم الثابت الوحيد بالمنزل، والذي كان مستعداً لما سيحصل، فمات في بيته، الذي لم يعد بيتاً، في ثانية ستستمر في حياته إلى الأبد.

 

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.