أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : غُرفة المُدخِّنين، وفساد البشر

كتابة : عبدالعزيز الريسي

تدقيق لغوي : ربيع قطان

 

إنّني في غاية الثّمالة، لم أعُد أعلم من الّذي يجلسُ بجانبي، لا أعلمُ أيْن أنا، وما الّذي أفعلهُ هُنا. تجذِبُني تِلك المِرآة، مِن المُفترض أن أُلاحِظ انعكاس وجهي وجسدي، ولكِن كُلّ ما أراهُ هو جِرحٌ لعين، وجسدٌ بِهِ أبوابٌ مُغلقةٌ بسلاسِل حديديّة. أشربُ كأسًا آخر، وأُدخِّنُ آخِر لُفافة تبغ، رمادُ اللُفافةَ يتساقط على مِعطفي وحذائيَ القديم بينما أُحدِّقُ بذلك البائس من انعكاس المِرآة. أنظرُ لِلرّماد، ماذا لو كنتُ رمادًا؟ لُفافة تبغ؟ يعتني بيَ المُدخِّن، يلفُّني بِعِناية، يبدأُ بحرقي وأتساقط كحبّاتِ الثّلج النّاعِمة.
‏إنّهُ يقودُني للجنون، الملل.
‏في أماسيَ اللّيل أذهبُ لِغُرفة المُدخِّنين، أجلسُ طوال اللّيل وأُدخِّن بينَ رِجال المدينة. في الحقيقة، لم أكُن موجودًا بينهُم، فهُم لم يلحظوا وجودي، بل إنهم ينسون أنّني جالِسٌ هُناك، لم أنصِت لمُحادثاتهُم، لا أتذكّرُ يومًا تحدّثتُ فيه مع أحدهُم باستثناء إلقائي لِلتحيّة عِندَ دخولي. أجلسُ هُناك، أجلسُ فقط وأُفكِّر، تنتابُني أفكارٌ عديدة طوال الوقت الّذي أقضيه هُناك، ولكِن سُرعان ما تذهب مع دُخان التّبغ وأتحرّرُ مِنها. وأيضًا أنتظِر، كما لو أنني أنتظِرُ الموت في محطّة القطار.
‏أثناء تفكيري، أردتُ أن أنصِت لهُم أخيرًا، ولكن هذه الفكرة لم تكُن كالأفكار السّابقة، فلم أتحرر منها، ولم يأخذُها دُخان التّبغ. أخذوا يتحدّثونَ عن زوجاتهُم، البطالة، الكِلاب، الطّقس، دكاكين الحلاقة وأفضلها، حتّى أنّهُم تحدّثوا عن أفضلِ أنواعِ مؤخرات الفتيات.
‏ اللّعنة، تمنّيتُ لو أنّني لم أعِرهُم أيّ اهتمام.
‏قال أحدهُم فجأة:
‏”إذًا، جميعكُم تعلمون يا سادة أنّني فزتُ بِدوري الشّطرنج لِلمُحترفين. عِندما فزت وعدتُ للمنزل كانت جيلينا جالسةً على الأريكة وتقرأ الواشنطن بوست، أردتُ الاحتفال وأخرجتُ علبتيّ بيرة وقدّمتُ واحدةً لها, وما الّذي فعلتهُ العاهرة؟ قالت لي اللّعنة عليك وعلى بطولتك! وأكملت قائلة: لم تُقبِّلني، ولم نخرُج هذا الأسبوع، ولم نُمارس الجنس منذُ شهر… اللّعنة، حتّى أنّك لا تقضيَ الوقت معي.”
‏وأكمل:
‏”لا أعلم ما الّذي تُريده، فكُلّ ما تفعلهُ تلك العاهرة هو قراءة الصُّحف… باختصار، نعتُّها بالعاهرة ونهضت وتوجّهت للخزانة وأخرجت حقيبتها ووضعت ثيابها فيها. وفي نفسِ اللّيلة، مارستُ الجِنس مع فتاتين… لقد كانتا أخوات.”
‏جميعهُم بدون استثناء ضحكوا على عمله البطوليّ، فمن يفعلُ ذلك؟ من الّذي يمكنهُ أن يقطع علاقتهُ مع حبيبته ويُمارس الجنس مع أخوات في اللّيلةِ ذاتِها؟
‏في اليومِ نفسه، أدركتُ أنّهُ لا يوجدُ مكانٌ لنا في الجنّة، أو رُبّما أنّني جاهِلٌ للحقيقةِ الأُخرى، رُبّما سوف يستقبلنا الرّب بِكُلِّ حُب بالرّغم من جميع الخطايا الّتي ارتكبناها.
‏إنّني أُفكِّرُ كثيرًا، أمشي وأصطدِمُ بالنّاس، أحيانًا أُحيّيهم، وبكل غرابة، لا يردّون التّحية.
‏ لم أنم اليوم، لا أعلمُ إذا ما نمتُ بالأمس، لا أعلمُ إن كنتُ سأنام بالغد. نفُذت طاقتي، لا طاقة لي بحملِ كِتاب، لا طاقة لي حتّى لأُدير رأسي.
‏لا أعلمُ ما الّذي حدث بعدها، ولكنني، وأخيرًا، نُمت.
‏حلمتُ أنّني في حانة، وكنت بِلا حِذاء، وبجانبي أحدٌ ما اسمهُ جوني، وكان يقول:
‏”نعم، نعم، إنّهُ هو، الرّجل الّذي أمامهُ دفترُ التّغيير، لقد كان صديقي في السِّجن” وأشار بأصبعه نحوي.
‏سجينٌ سابِق؟ متى وكيف كنتُ في السِّجن؟
‏فتحتُ ذلك الدّفتر، وأمرني جوني بكتابة أيّ شيءٍ أُريدُه، وكتبتُ مِن دونِ تفكير:
‏”أُريدُ أن أقتُلَ جيسي جاك”
‏جيسي جاك هو الرّجُل الّذي مارس الجنس مع الأخوات.
‏قال لي جوني بعدها:
‏”أخرُج من الحانة، وانتظِر هُناك”
‏”حسنًا” قَلت.
‏لقد كنتُ بكامل هدوئي، بل وأنني كنت بكامل حماسي عندما أمرني بالخروج.
‏خرجت من الحانة، وكان على يمين باب الحانة جيسي جاك، لقد كان ثملًا، أنفهُ مكسور، وعندما رآني بدأ يلعنُ والداي، وهجم علي بالرغم من ثمالته. أراد أن يلكمني ولكنّني تفاديتُه، هجم عليّ مرّةً أخرى وتفاديتهُ أيضًا، عِندها لاحظتُ وجود مضربٍ حديديّ بجانب باب الحانة وتوجّهتُ نحوه. أمسكتُ المِضرب، وبِكُلِّ عُنف ضربتهُ وتحطّمت أسنانه، سقط كالجثّة الهامدة واستمرّيتُ بضربِه حتّى مات.
‏بالرغم من كل ذلك وكل ما حدث، بقيتُ هادئاً.
‏دخلتُ للحانة، وصفّق لي جوني ومن كان معهُ وجلست على مقعدي. أمرني مرّة أُخرى بكتابة أيّ شيءٍ أُريدُه وكتبت هذه المرّة:
‏”أُريدُ مكانًا آخرًا يعيشُ فيه الفاسدين”
‏”كلا، اكتب شيئًا آخر” قال جوني
‏”ولكنني أُريدُ هذا الشّيء” قلت
‏”لا يمكنني أن أفعل لك ذلك”
‏”ولماذا؟”
‏”اللّعنة، جميعُنا فاسدون! أنا أنت، الجميع. لا أحد هُنا بريء.”
‏وأكمل:
‏”كانت هُناك فُرصةٌ أن نكون فيها صالِحين، ولكن أفسدناها، وها هُنا نحنُ الآن، نعيشُ في عالمٍ من الفساد، الخوف، الفقر والاحتيال، ولا مجال للضّعيف في هذا المكان. نحنُ أفسدنا كُلّ شيء، وسوف نستمر بالفساد ولن نتوقّف. يا لها من مسرحية تراجيديّة، يا لهُ من سيرك هزليّ”
‏استيقظت، وأيقنتُ أنّنا فاسدين.

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.