أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : رسالة إلى ميت

1

إنهُ لحشدٌ جيّد
‏لِليلةٍ كهذه
‏”جوني”، الرِّوائيٌّ الإنكليزيّ
‏يتحدّثُ مع الجميلة “كارلي”
‏تقاسموا سيجارة
‏وبعدها قُبلة
‏وسرعان ما اختفيا بيْن الحشد.
‏الكوميديّ “كمال”
‏يُقارِعُ الشّرابُ قبلما يعتلي خشبة المسرح
‏فتاةً صاحت، مؤشِّرةً بإصبعها نحو “كمال”
‏”_إنّنا هُنا لِرؤيتُك، اعتل الخشبة.”
‏الميكروفون تفوحُ مِنهُ رائِحةَ سجائِر
‏ورائِحة الخَمْر
‏لا تقُلُّ قوّةً من رائِحةَ السّجائر
‏تطايرت قطرات الخمْر
‏وتعالت الضّحكات
‏نسِيَ “كوبي” أمر زوجتهُ الخائِنة
‏وتخطّت “ليڤيا” أخيرًا أمر وفاةَ شقيقها الأصغر
‏ونسيَ جميعُ مُرتادي الحانة الحياةَ ومرارتُها.

‏أوراقٌ مُتناثِرة، وسجائِرٌ مرميّةٌ في الزّاويةَ البعيدةَ مِنَ الُغرفة، بقايا طعامٌ على سرير “كمال”، وأشِعّةَ الشّمس تتسلّلُ خِلسةً وتُنيرُ الجانِب الأيمن من الغُرفة. على الطّاوِلة، كُتبٌ مُكدّسةً فوق بعضِها البعض، يعتليها دون كيخوته لِميغيل دي ثيربانتس سابيدر، ويأتي تحتهُ الإخوة كارمازوف لِفيودور دوستويفسكي، النّحتُ في الزّمن لأندريه تاركوفسكي، حياةَ السّيد موليير لِميخائيل بولغاكوف، وكِتابَ اللّاطمأنينة، لِفيرناندو بيسوا. يستمِعُ عبر جِهاز الفونوغراف لأسطوانة تحمِلُ تجميعةً لأغاني طلال مدّاح بينما يكتِبُ في مُذكّرته عن الغُربة التي يعيشُها في سان بطرسبرغ. كان يكتُبُ عن تِلك الليلة التي صعد فيها على خشبة المسرح عِندما سمِع مقطعًا من اغنيةً ما يقول: “في سلّم الطائرة بكيت، غصبًا بكيت.. على مُحبين قلبي عِندما ودّعوني…” توقّف عن الكِتابة، وأغلق المُذكِّرةَ، وأخرج ورقةً من الدولاب وجلس على نافذتهُ التي تطلُّ على مطار بولكوفو.

 

2

“مصر”
‏القاهرة
‏شارع السّعادة
‏المقبرة، القبر رقم ٢٣.

‏رأيتُكِ في منامي بالأمس، كان يُغطّي جسدُكِ الكريمَ رداءً حريريًّا ناعمًا كنعومةٍ شعر فتاةً قوقازيّة، وكُنتِ تُردّدين: أنا بخير.

‏أنا الآن في الرّابعة والثلاثين من عُمري، لعلّكِ تعلمين ذلك، ولكن الأمورَ هُنا، عمليًّا، ازدهرت، والعملُ عاد كسابق عهده، فتح العجوز ميخائيل حانته بعدما أغلقها، وكارل، ذلك الفتى الشقيّ الذي أخبرتك عنه في رسالتي الأخيرة، اجتاز امتحان الرياضيات، وها هو الآن يدرُس الهندسة. أمّا أنا، نفسيًا، أشعُر بالتيه، والضُّعف والبؤس، ولكن بطريقةً أو بِأُخرى سألِمُّ شتات نفسي، كما أفعلُ دائمًا. كيف حالُكِ؟ وحالُ أم سعيد وجميع من رحل، هل أنتُم بخير؟ قُبُلاتٌ وأحضانٌ دافِئة لكِ ولمن رحل.”

‏ذهب إلى المكتب البريديّ لكي يرسلها، الرسالة التي لن تصل أبدًا، والرسالة التي أرسلها لميّت.

‏”ليلة تحوّل الكوميديا”
‏المُدير يُرحِّب “بِكمال”
‏الذي نعته ساقي الحانة
‏بإله لكوميديا
‏تُقبِّلهُ “مارزيا” على خدّه الأيمن
‏”وروزاليتا” على خدّه الأيسر
‏أما ملك الشطرنج
‏فيُرحّب به بإعطاءه سيجارةً كوبية
‏يُزيّف كمال ابتسامته
‏واستمتاعه
‏وحماسه لتلك الليلة
‏يعلو صوت الموسيقى
‏ويصرخ المُدير
‏”الشّراب مجانًا هذه الليلة”
‏فتاةٌ تصيح
‏”أتيت هُنا من أجلِك يا “كمال”، اصعد على الخشبة”
‏يهتِف الجميع باسمه
‏ويصعدُ وتعلو الصرخات
‏يرفعون كؤوسهم ويقولون
‏”نخب إله الكوميديا، “كمال”

‏لم تكُن كأيّ ليلة، فقد بدأ “كمال” بشكلٍ مثالي بانتقاده للمُجتمع الغربي والكهنةَ وجميع طبقات المُجتمع، وسط كل تلك الضحكات تذكر تلك الرسالة، تذكر المرأة ذات الرداء الحريري، وأُم سعيد والراحلون. بعدها، تحولت تلك الضحكات إلى صمت وبُكاء.

‏توقّف “كمال” عن الحديث لِمُدّة دقيقتين، بعدها تحدّث عن ذلك الحلم، وعن والدته، ذات الرداء الحريري، وعن أُم سعيد التي كان يُساعدها كل يومٍ بعبور الشارع. وسط كُل ذلك البؤس الذي شكّله “كمال”، إلّا أنه أخرج الحضور وكل من كان يبكي من تلك الأجواء الكئيبةَ.

‏خيّم البؤس في وجوههم
‏بكت روزاليتا
‏وتذكّر كارل والده
‏الذي مات في الحرب
‏”كمال”, إله الكوميديا!
‏الذي تحدّث من غير وعي
‏لوهله أدرك ما فعله
‏وتحدّث بِكوميديّةٍ بالِغةً الحِدّة
‏عن شوارع مصر
‏فشل في البداية
‏ولكِن
‏عادت الابتسامة
‏وعادت الضحكة
‏وجفّت دموع روزاليتا
‏تعالت أصوات الموسيقى
‏بعد نزول “كمال” من الخشبة
‏وحيّوه جميعًا
‏أخذ كأسًا من المارتيني
‏واتّجه نحو المُدير الذي سأله:
‏”ما الذي حدث هُناك؟”
‏ردّ “كمال” قائلًا:
‏”سمعت أحدًا يقول أنني اخترعتُ نوعًا جديدًا من الكوميديا”
‏”وما هو هذا النوع؟” سأل المُدير
‏”إنها الكوميديا البائِسة”

 

كتابة : عبدالعزيز الريسي

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.