أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : قُضي الأمر

كتابة : رُقية

تدقيق لغوي : وفاء الحربي

 

1

“أنا عادل الذي تقصدين، أعلميني فورَ رؤيتك هذا الرّد، هذا رجائي الأول والوحيد.”
تسمّرَت مكانها، جَحظت العينان وكاد القلب أن يفر خوفاً.

يوم الثلاثاء، الرابعة مساءً، عادت مريم تجرّ خطواتها وقلبها حُزناً على خبر وفاة عادل، ابن الجيران الذي كان قد مضى على رؤيتها له عشرِ سنوات.
شاب في نهاية العشرينيات، في مُنتهى صحّته الجسدية والعقلية يموت إثر اصطدام أنفه بقوة بماسورة المياه! استقبلت مريم الخبر، وعصفت بعقلها تلك الذكرى الوحيدة التي تربطها به.
في مدوّنتها الافتراضية والخالية سوى من أفكارها، اختارت مريم أن تُعدّ لتلك الذّكرى سريراً دافئاً.

لن أدُق الجرس إن عاد بي الزّمن.
قبل عشر سنوات كان يحلو لي أن أقف أمام ذاك الباب وأجول بنظري حول دائرة الجرس، كان الأمر -بالنسبة لي- أشبه بمُعجزة.
وكأنّ أمر إزعاج أولئك الجيران -الذين لم يكن ذنبهم سوى أنهم وضعوا جرسًا لمنزلهم- هو مسؤوليتي وأقراني من صِغار وصَغيرات الشياطين.
حجر الأساس الذي ينقذ قصر قامتي فيساعدني على الوصول لزر الجرس كان دائماً هناك. وقفت كشراع سفينة، لا آبه لشمس الظهيرة ولا لقيلولةِ أهل الحارة آنذاك، ورحت بهمجيّةِ عفريتٍ أمرَد أدُق الجرس مراراً وتكراراً دون أي اعتبار، ثم بسرعة البرق كنت أعدو إلى البيت.
حتى شاء الله بأن يُقبض عليّ يوماً بجُرمي المشهود، فيخرج عادل مسرعًا صارخاً بأعلى صوته أن تعالي وإلا سيصل أمرك إلى شرطة الأطفال، أي والدَيّ. التفتُّ للوراء حيث زئير عادل قبل أن أعاود الرّكض باتجاه المنزل كأي حيوانٍ جبان.
لم أنم تلك الليلة جيداً، فقد تلبسّتني الشكوك ومكثتُ أخترع وعقلي بضع حججٍ واهية لأسردها لأبي يوم الحساب، أعني بعد أن يبلغه شنيع ما صنعَت ابنته.
عادل، أخي الذي انزعج مني يومًا، أنا آسفة وأرجو أن تكون الآن في الجنّة.

جال في ذهن مريم فضولٌ بالعودة إلى المدونة التي كانت قد أُغلقت حداداً على بضع أخبارٍ سيئة تلت موت عادل الذي مرَّ عليه ثلاث سنوات.
تنبيهٌ عقيم؛ رد: لن أدُق الجرس إن عاد بي الزّمن.
“أنا عادل الذي تقصُدين، أعلميني فورَ رؤيتك هذا الرّد، هذا رجائي الأول والوحيد”
تسمّرَت مكانها، جَحظت العينان وكاد القلب أن يفر خوفًا.
تاريخ الرد بعد تاريخ وفاة عادل بيومين!
بدا لها الأمر لُعبة سخيفة يَظُن بها أحدهم أنه قد يبُثّ شيئاً من الفزع في مريم، والذي حدث فعلًا.
-“من أنت؟”، مريم.
-“عادل، أنا عادل! لا تسألي كيف ومتى! أنا لا أعلم”، المجهول بعد ثانية من رد مريم.
-“تبًّا لك”، مريم.
-“أُقسم بالله أنا عادل، تُوفّيت قبل ثلاث سنوات، أعلم ذلك جيدًا، ما الّذي جاء بي إلى هنا ! لا أدري، أنا هنا وحيد في العدم، لا أراني ولا أرى شيئاً، أجهل سبب وسبيل هذه الرسائل. جسدي مقبورٌ في التراب إلى الآن وبقيت أنا؛ لم أُقبَر معه ولا أدري ما الذي يحلّ بي الآن. أشعُر بأنني مُشتّت، لا ! أنا لا أشعر بشيء.
كنت أحمل اسم عادل، باب بيتنا كان رصاصي اللون، أذكر جيداً كم دعوت عليكِ ذلك اليوم وتوعّدتكِ بإخبار ذويك، لكن والدي منعَني احتراماً لحق الجيرة الذي ضربتِ به عرض الحائط. أعلم! لم تتجاوزي العاشرة من العُمر آنذاك؛ هربتِ بعيداً بجديلتكِ السوداء القصيرة وفستانك الأصفر الفضفاض.
مهلًا، قد يكون عقلي هو الذي يتحدّث الآن!
كلا! أنا لستُ عادل، أنا في حقيقة الأمر ذرّة هواء تطير حيث التّيار، لا تسمع، لا ترى، لا تتحدث، لا تفكّر ولا تشعُر.
ولكنّني أتحدث إليكِ، تذكّرت الجرس وأنتِ!
أنا مُرتاب، ما الذي أفعله إلى الآن طالما أن عادل مات؟ ما الذي يربطني به؟
قد أكون فكرةً في رأس عادل لم تشأ أن تمُت معه فحرّرت نفسها وحلّقت بعيدًا قبيل موته.
لقد اعتدنا على موت الأفكار في حياة المرء، ولكن أمري مختلفٌ تماماً؛ أنا الفكرة التي نجت بعد موت صاحبها !
كيف لي العيش الآن؟ كيف سيراني الآخرون؟ هل هناك سبيلٌ لذلك أم حُكِم على حالتي هذه بالأبديّة؟
أي الأفكار قد أكون أنا؟ كيف لي أن أعرفني؟ هل خُلِقت في رأس عادل أم أن عادل هو الذي خلقني؟ هل تعرَّف إلي قبل موته؟

ليس هناك سَبِيلٌ لمعرفة كل ذلك، أنا مُبتئسٌ ويائس، أنا هي ضالّتي.
وداعًا مريم، وأنا سأكمل حديثي مع نفسي لعلّي أتعرّف إليّ.”

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.