أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : نيتشه في ميلانو

1

“السّاعة الثامِنة صباحًا، مكتبة ميلانو العامّة، المكانُ مُزدحِم -كعادته-، وجيوڤاني تأخر هذا اليوم بسبب الازدحام المروري الذي سببته الحافلة التي اصطدمت بجِدار إحدى بنايات المدينة، وأنا انتهيت قبل عِدّة دقائِق من الفصل الرّابع من كتاب نيتشه “أفول الأصنام”، حيث تحدّث فيه عن حرب الكنيسة مع العاطفة، قال في كِتابه “أنها شنّت حربًا ذكية ضد العاطِفة والحياةَ أجمع” ما لم يفهمه نيتشه -برأيي- هو أنه من دون الروح لا توجد عاطِفة، ومن دون العاطفة لا يوجد إنسان، فإن البشربِطبيعتهم نوعًا ما عاطفيين. سأُبسِّط المُعادلة أكثر، لِكُلِّ روٍح عاطِفة، أي أن لكُلِّ إنساٍن عاطفة، وبإمكان هذه العاطفة التحكُّم بقرار الفرد مهما كان، مهما كانت شخصيته، فالعاطفة هي الروح.

‏لا زال باولو مذهولًا من نيتشه، فلا يمر اليوم من دون أن يكتُب عنه وعن تمرده وابتعاده عن دينه والبشر والحياة، حاول أن يفك أحجية نيتشه، أن يحل اللغز الذي يكتب عنه في صحيفة ميلانو الأدبية، حاول أن يدخل في عالمه المُظلِم المليء بالكآبة والإنعزال الذي ليس لأي أحد، وليس لباولو بالطبع.         

 وصل جيوفاني للمكتبة في تمام الساعة التاسعة والربع، عِندما وعندما أصبح على مقربة من باب المكتبة تذكر أنه نسي أن يبتاع كوبان من القهوة، له وباولو. ذهب لمتجر العم سيلڤيو لشراء القهوة ومن ثم عاد مرة أخرى إلى المكتبة حتى وصل أخيرًا عند باولو الذي كان يكتب مقالة جديدة يتحدث فيها عن تأثير نيتشه بِكازانتزاكيس، قاطعه باولو وقال؛

‏- لازلت تكتب عن نيتشه! ذلك الهراء الذي يتحدث فيه عن الوحدة يثير اشمئزازي.

‏- تاركوفسكي أيضًا كان من محبين الوحدةَ ياجيوڤاني.

‏إحمرّ وجه جيوڤاني قليلًا، تاركوفسكي كان أحد شخصياته المفضلة، أجابه بصوٍت حاد:

‏- العُزلة، العُزلةَ يا باولو وليست الوحدة.

‏- وما الفرق بينهم؟

‏- الوحدة من منظور نيتشه هي النضوج، والشعور بالحياة، ذلك اللعين حارب البشر من أجل وحدته، اتخذها وطن حتى أُصيب بالجنون

– ماذا عن العُزلة؟

– العزلةَ ياعزيزي باولو، كما يراها تاركوفسكي، هي ليست عدم الاتصال مع البشر لِأنّهم سيئون، عدم الأتصال والتواجد معهم لهدٍف ما، وهو اكتشاف النفس، العزلة هي رِحلةٌ روحية بعيدةٌ عن البشر والعالم الخارجي. 

انتهى الحوار بين باولو وجيوڤاني بذهاب باولو إلى غرفته التي تقع في البناية المُقابلة من المكتبة. عند ذهابه للغُرفة وجد رِسالة ما بجانب باب غرفته، شعر بالغرابة لأنه لا يتلقّى أي رسائل في هذا الوقت من اليوم، فسارع على فتحها وبدأ بالقراءة.

“لم يكُن نيتشه وحيدًا قط، ولم يكُن مجنون. باولو، عِند استيقاظك من النوم كل يوم، ترتدي حذائك البُنّي وترتدي بزّتك الرسمية وتخرج من الغرفة رقم ٩ تذهب للمكتبة العامة لكتابة مقالاتك الرائعة… عزيزي باولو، في هذا الوقت الذي اكتب فيه الرسالة، الدِّماء تملئُ المكان كبُحيرٍة فاض ماؤها، والجثث ملقيةً على الأرض كالحيوانات البرّية، لستُ آسِفًا عن ما فعلت وعن ما سأفعل يا باولو. أخبرهم، أخبر رجال الشُّرطة أن نيتشه قد عاد إلى المدينة!.” 

 

2

أخذ باولو يتمعّن في الرسالة وقرأها سبعة مراٍت متتالية، لم يشعر بالخوف أبدًا، بدا له الموضوع كالأُحجِية التي من الصعب أن تُفك. “نيتشه” بدأ بالتحديق بذلك الإسم الذي لطالما كان بالنسبة له إله، إلهُ الوحدة

“لماذا نيتشه؟.” 

ردّد باولو هذا السؤال عِدّة مرات، وقرأ الرسالة للمرة الثامنة على أمٍل أن يجد حلًا لهذا اللغز، فما علاقة هذا المجرم بنيتشه؟‏ وبأي حق يطلق على نفسه اسم نيتشه؟ أخذ باولو الرسالة واتجه مُباشرةً إلى مركز شرطة ميلانو بعدما حذف اسمه من الرسالة ونسخها لكي يحتفظ بالنسخة الأصلية. عِندما توجه لمركز الشرطة نظر للمكان وتأكد من ان لا أحد يوجد هُناك، انتظر لِلَّحظة المُناسبة ورمى الرِّسالة بجانب باب مقر الشرطة وفرّ هاربًا إلى المكتبة.

أراد باولو أن يجذُب انتباه المُجرِم، وقام بكتابة مقالًا هذه المرة بعنوان “ماذا لو كان نيتشه بيننا؟”

“ماذا لو كان نيتشه بيننا؟”

وراح يكتب:

” في رأيي، سيقوم بتدمير الكنائس، فالرب ميِّت -كما يقول-، وبعد ذلك سيستمر في مُحاربة الأخلاق، سيبقى في جحره الذي سيكون فيه وحيدًا بعيدًا عن العالم الخارجي، وهُناك سوف يدعوا الناس أن يتبعوا منهجه، منهج الوحدة. ذلك الجنون سيدفعه إلى الخروج من جحره وسيبدأ بسفك الدماء، سوف يقتل جميع نساء ميلانو، وبعدها سينتقل إلى روما وتورينو، إلى أن تنتهي جميع نساء إيطاليا، فالمرأةُ في اعتقاده هي خطيئة الرب الثانية.”

باشر باولو في طباعة المقال، وقدّمه لِلأُستاذ لويجي لمراجعته وتم نشره في صحيفة ميلانو الأدبية في اليوم الاثنين. وفي صباح يوم الثُلاثاء انتشر خبرُ وفاة فتاةً روسية تقطُن في أحد أحياء ميلانو، لم تكُن أول جريمٍة من نوعها، ‏حيث تسلل هذا النوع أللأخلاقي من الجرائم من ميونخ الى ميلانو كنوع من العاقبة الأخلاقية لوجود النساء. جثث مفرغة من الأحشاء مرمية بين الأزقة و الطرقات، أمام مراكز الشرطة و بيوت الحكام، لكن الأمر الغريب أن تلك الفتاة لم تكن عاهرة بل مجرد فتاةً عادية كانت تعمل في أحد أسواق المدينة، والأغرب من ذلك انه منذ عامين وبعد عقدٌ كامل من ذلك الرعب، عُثر على القاتل منتحرًا في الباحة الأمامية للمدينة معلنًا استسلامه من عملية الإبادة تلك.

هل يُعقل أن يكون هذا المُنتحِر أحد أتباع نيتشه؟ أم احدٌ من بقايا سُلالته؟ 

لم تكُن حياة باولو مُثيرةً قط، عاش طوال حياته يكتب المقالات ويبحث عن أسئِلةَ لا جواب لها، تِلك الأسئِلة الوجودية عن وحدانية نيتشه وتقديسهُ لها جعله يؤمن بأنّ نيتشه كان كالإله، ولكن ذلك الإله قد مات وماتت معهُ جميع الأجوبة التي كان يبحث عنها طيلة حياته. عِند رجوعه لِغُرفته في تمام السّاعة العاشرة مساءً وبعد يوٍم شاق قضاه في مُساعدة أمين مكتبة ميلانو العامة، حدث ما توقّعه: رسالة ملقية أمام باب غرفته.

سارع بفتحها وبدأ بالقِراءة.

“التطهير، التطهير يا عزيزي باولو، هذا ما أسعى لفعله. قرأت المقال الرائع الذي نُشِر في صحيفة ميلانو، الغريب في الأمر أنه لا أحد يكترث بما تكتب، لا أحد يأبه للهُراء الذي تنشره كل صباح في الصحيفة الأدبية. ولكن أنا من سيبعث تلك الإثارة التي انتظرتها طوال حياتك، نيتشه هو من سيبعث الحياة في روحك البائسةَ والمُمِلةَ مرةً أُخرى، ترّقب يا باولو، ترقّب ما الذي سأفعله قريبًا.”

 

3

بعد تلك الرِّسالة، شعر باولو بشيٍء غريب، وكأن شيئًا ما في داخله يخبره بأنه يعلم سر نيتشه، سارع بِإغلاق جميع نوافذ غُرفته وأخذ متاع أفكاره وذهب في رحلٍة عميقٍة من التفكير. حاول جاهدًا أن يظهر بِنتيجٍة قد تُساعده بحلِّ هذه المُعضِلة، ولكن الشيء الوحيد الذي خطر في باله هو أن يكتُب رِسالةً إلى نيتشه ويترُكها أمام باب غُرفتِه. 

“أعلمُ من أنت.”

تلك فقط كانت كلمات باولو، ولكن في الحقيقة هو لم يكن يعلم من هو نيتشه، حيث سبقه نيتشه في كُلِّ خطوٍة حاول فيها للوصول إليه. ذهب باولو لِلمكتبة لِلقاء جيوڤاني الذي يعمل معه في صحيفة ميلانو الأدبية، ولكن تأخر جيوڤاني -كعادته- مِمّا جعل باولو يذهب في نُزهِة في أحياء ميلانو. بينما يتجوّل باولو بين أحياء ميلانو، لاحظ أن من يقطُن في تِلك المناطق أكثرهم سُيّاح، وغالبيتهم فتيات، حاول أن يسأل أحد ساكنين تِلك الأحياء عن الحياةَ الليليّةَ فيها، هل تكثُر فيها الحركة؟ أم يعُمُّ الهدوءَ فيها بعد مُنتصف الليل؟

قرّر أن يطرُق باب أحِد بيوت الحيّ القريب من المدينة، اختار منزِلٌ بشكٍل عشوائي وخرجت مِنهُ سيِّدةً يبدو أنها في مُنتصف العشرينيّات، حيّاها ولاحظ أنها ليست إيطالية من خِلال ركاكة لُغتِها، قال لها أنهُ كاتِبٌ ويُريد أن يعلم عن الحياة في أحياء ميلانو، وسألها أولًا عن ما إذا كانت هُنالِكَ حركةً في الحيّ بعد مُنتصف الليل وأجابت:

– الحياةُ هُنا طبيعيّة، الجميعُ مُهتمُّ بشئونه فقط. ليست هُنالك أيّة حياةٌ ليلية هُنا، فنحنُ لسنا في أحد أحياء مدينِة الخطايا، ولكن يمكنك أن تقول أنّ الحفلات تكثُر في العُطلات فقط.

– هل جميع سُكّاِن هذا الحي سُيّاح؟

– ليس الجميع ، فبعضهم يعمل هُنا، وبعضهم سُيّاح، القليل من الإيطاليين يسكنون في هذا الحي، فكما تعلم لقد أصبح قديمًا وقد انتقلوا للأحياء الجديدة في الجانب الآخر من المدينة.

اكتفى باولو بهذا الكم من الأجوبة وأعتذر من السيّدة على إطالته معها، تجوّل أكثر في الحي ولاحظ كُثرة الأزِقّة الضيقة، وكُثرة فتيات الحي أعطته إشارةً بأن نيتشه قد يبدأ بارتكاب إحدى جرائِمه الشنعاءَ هُنا. ولكن السؤال الذي حيّر باولو هو: متى سيفعلها؟

عاد باولو للمكتبة ورأى جيوڤاني يكتبُ رِسالةً ما، لم يهتم باولو بالأمر، لأن عقله وتفكيره كان مع نيتشه، وكيفية إيقاف سفك الدِّماء وقتل الأبرياء من دون أيّ حق. عِندما انتبه جيوڤاني لِباولو توقّف عن الكِتابة ووضع الورقة التي كان يكتب بها في جيبه وبدأ بِالغِناء، أراده أن يتوقّف ولكن جيوڤاني استمرّ بالغِناء حتى غضب باولو وخرج من المكتبة بِكُلِّ غضب. ذهب لِغُرفته حيث يمكنه التفكير بِكُلِّ أريحية، استلقى على الكُرسي ذو الجلد الثقيل وبدأ بالتفكير في الرِّسالةَ الأولى التي كتب فيها أن نيتشه لم يكُن وحيدًا ولا مجنونًا، فإن لم يكُن نيتشه هو المجنون، فهل الأبرياء الذين خسِروا حياتهم وعائلاتهم وأصدقائهم من دون أيّ سبب هم المجانين؟

فجأة، تذكّر باولو بعض كلمات الأغنية التي كان يُغنّيها جيوڤاني في المكتبة:

“المجنون في رأسي،

المجنون في رأسي،

… هُنالِك أحدٌ ما في رأسي ولكنه ليس أنا.”

 

4

كان يُردِّد جيوڤاني “المجنون في رأسي” وبعدها يضحك بطريقةً هستيرية لفتت أنظار جميع مُرتادي المكتبة، تلك الضحكة الغريبة جعلت باولو يشك في جيوڤاني أكثر وأكثر، وتذكر كل الحوارات التي دارت بينهم أثناء حديثهم عن نيتشه، حيث ذكر جيوڤاني كلمة “مجنون” كثيرًا عند ذكره للفيلسوف نيتشه. الوحدة، الجنون، التّمرُّد، كل تلك الكلمات كررها جيوڤاني حتى عندما يتحدث عن الفلاسفة الآخرين مِثل كازانتزاكيس وشوبنهاور. اقترب باولو من حل الأُحجية التي جعلت حياتهُ أكثر إثارة من أيّ وقٍت مضى، ولكن الشيء الذي جعل باولو يتأكد أن جيوڤاني هو نيتشه هي طريقة الكتابة، لافرق بين طريقة جيوڤاني ونيتشه، الخط، المسافات القصيرة، والتوقيع الذي لا يختلف فيه سوى الاسم. قرّر باولو إن يُلاقي جيوڤاني، وذهب إلى منزله الذي يقع في أحياء ميلانو الجديدة. 

في الجانب الآخر من المدينة، جيوڤاني يكتُب الرِّسالة الجديدة التي سيبعثها لباولو، ويُجهِّز نفسه للجريمة الأُخرى التي من المُمكِن أن يرتكِبُها في حيِّ ميلانو القديم. عِند انتهائه من كتابة الرسالة سمِع أحدٌ ما يطرق باب منزله، إنه باولو، لِماذا قد يزوره في هذا الوقت؟ استغرب جيوڤاني من هذه الزيارة التي كانت من دون سابِق إنذار، وكل ما خطر في باله أن باولو يعلم حقيقته. 

عِندما استأذنه باولو للدخول، قدّم له القهوة وأخذوا يتبادلون الحديث حتى قال باولو؛

– هل أنت خائِفًا من الموت يا جيوڤاني؟

– لستُ خائِفًا من الموت يا صديقي، لستُ خائِفًا من أيّ شيء. ففي نِهاية المطاف سينتهي كل شيء، سنموت جميعنا وسوف نذهب للمجهول، حيث لا يوجد أيّ شيٍء سوى السواد.

– لِم لا تخاف منه؟

– أنت اخبرني لِم أخاف يا باولو؟ ليس هُنالك سببٌ لكي أخاف منه، الموت قادِمٌ لا محالة، فمِنّا من سوف يُقتل ومنا من سيموت جوعًا والبعضُ الآخر سيموت بسلام.

– وأنت، كيف تُريد أن ترحل؟

– أنا؟ لا أعلم، رُبّما أريد أن أرحل أثناء دِفاعي عن شيءٌ ما أُحيا من أجله

– ومن أجلِ ماذا تحيا يا جيوڤاني؟

هُنا علِم جيوڤاني أن باولو يعلم حقيقته، يعلم أن منزله هو الجُحر الذي يُحارب فيه النِّساء، والمكان الذي يُمارس فيه عاداته الخبيثة ويقوم بالتخطيط من أجل الجرائم واختيار الفتاة المناسبة. عاد جيوڤاني إلى الخلف وفتح الدُّرج الثاني الذي يضع فيه مُسدّسه وقال:

– “سأراك في الجانِب المُظلم من القمر يا باولو”. 

أطلق رصاصتان على باولو، واحِدةً في رأسه، والثانية في عُنُقه وأرداه قتيلًا، أخرج أحشائه -كما يفعل دائمًا- وأخذ جُثته ورماها في أحد نُفايات حيّ ميلانو القديم.

*النهاية*

كتابة: عبدالعزيز الريسي

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.