أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : كالهُندباء

كتابة : ريوف

تدقيق لغوي : جوزفين

 

1

 

نسيمٌ خفيفٌ يحملُ بين أحضانهِ لحنَ أغانٍ هادئة تُحرِك مشاعر المُتجوِلين في ذلك الشارع .

ألحانٌ حيويةٌ لطيفة تُلامِسُ كل تلك القلوب على اختلافها، ترسمُ البسمةَ على ثغرِ كل من سمِع أنغامها وكلماتها الرقيقة.
تخلل تلك الأغاني صوت ضحكات رقيقة حملتها الرياح ناشرة صداها بين الأزِقة والمباني والقلاع، بين كل تلك الجموع في هذه البقعة المحتلة.
امتزجت تلك الضحكات بمسحة تعب تغلغلت بينها نتيجة للمجهود الذي تبذله كل واحدة منهن.
خطت هايلي بخطواتٍ واسعة وسريعة في المقدمة ويدها اليمنى تشد على يدِ سوزان اليُسرَى ساحبة إياها إلى تلك البقعة المحببة لهم.

بنظراتٍ مشتتةٍ نشيطة بَحَثت عن ذلك الجسد الذي كان يلحقُ بهِنَ، وما لبِثت طويلاً حتى رأته ُيُجاهِد للتملصِ من بين ذلك الحشدِ الغفير محاولاً الوصولَ إلى طيفهن.

صرخةٌ خافتةٌ تمرَدت من فمِ هايلي حينما أدركت قرب المسافة الفاصلة بينهم وبين ذلك الرجل قَمحي البشرة! شدّت يد سوزان أكثر وبدأت تجري بسرعة أكبر!
لم تهتم لما يحدث حولها، كل ما أرادتهُ هو التسابقُ مع الريح والرقصُ مع الزهورِ والغِناءُ مع السماء بصوتٍ عذبٍ وصاف كصفائها في تلك اللحظة.

الفستان الأبيض الممتزج باللون الزمُرِدي زادها إشراقاً وخفةً، شعُرها الداكن زادها جمالاً وروعةً، ملامحها المُتقلِبة بين البسمة تارة والخوف تارة أخرى، كانت تقاتل نفسها وتحثها على المواصلة وقد فعلت!

في اللحظة التي توغلت فيها بين الأعشابِ الطويلةِ وزهورِ الهندُباء، حررت يدَ سوزان الضاحِكة خلفها و تراقصت مع النسيم الهادئ بحركاتٍ لا تقِل خفةً من زهرة الهندباء، الحرية سكنت روحَها الضائِعة و أشعلت فيها رغبةَ التحليقَ عالياً.

لم تلتفت للخلفِ و استمرت بالتقدمِ مع عيونٍ مغلقةٍ و قلبٍ نابِض سعادةً وألماً، تُسابِقُ الغيوم فوقها وكأنها تترقبُ في أي لحظة بأن تُحلِقَ عالياً لتعانق الشمسَ و تُقبِلَ السماء و تُغني مع الملائكة!

لم تتوقف عن الصراخِ في داخلها ،مهما بدت ملامحها ساكنة فإن روحَها كانت ترقصُ فوق النار الحارقة عاريةً لا يستُرها أي شيء.

كانت تُغني الكثيرَ من الأغانِي وهي تمشي عكس اتجاهِ الريح، تشعرُ و كأن الرِياحَ ستحِملُ روحَها و تُرجِعُها للخلفِ من دونِ أي استشارةً لها!

– و منذُ متى تتم استشارتي في شيءٍ ما ؟-

حدثت نفسها بنبرة ساخرة لم تخلُ من الألم، لتجد عينيها تطرد جيش الدموع منها، رافضة الرضوخ لها، انقبض قلبها بقوة عندما تذكّرت حال بلادها الكسيرة التي رضخت للغزاة والتي لم تكن كحال عينيها الممتلئتين بالإباء!
تنفست بعمقٍ عِندَما شعرت بذراعٍ تُحيطُ كتفيها بقوة، نبرة صوته الثقيلة والهادئة انتزعتها مُجبرَة من عُزلَتها وعالمها المجهول.

عيناهُ كانت تحمل الكثيرَ من الأمورِ التي لم تستطِع تفسيَرها، تجدُ صعوبةً في فهمِه في بعضِ الأوقات فقط؛ وهذه واحدة من تلك الأوقات!

وبخَها عابِساً بنبرةٍ حمقاءَ ونظرة غير ثابتة :
– إلى أي مدى أردتِ الوصول؟ ، كِدتُ ألحقُ بكِ للولاياتِ المتحدة دون أي توقف، كان يجب أن تكوني شيئاً عظيماً في مجالِ القتال و الرياضة!

أجابتهُ بنبرةٍ هادئة تحاول أن تهدئ بِها خفقان قلبها المؤلم، أشفقت على ذلك القلب الذي لا يعلم هل يجبُ لأنه ينبِضَ ألماً بسبب المجهود الذي بذله من جريها، أم ينبضُ لما يخبئهُ في منتصفهِ!

– لا أُفضلُ رياضةَ الجسد التي تجهِدهُ ، إنما -كما تعلم- أُفضِلُ رياضةَ العقل و الروح، ويجب أن تُركِز أكثر على كلمةِ الروح!

أنهت حديثَها الهادئ وعادت أدراجَها حيثُ سوزان المُبتسِمة والتي كانت تُريِحَ جسدها على العشبِ الأخضر الرفيع مُغلِقةً جفنيها اللذين يخفيان تحتهما عينان تشبه لون الكهرمان.

 

2

انسابت مثل الماء لتخر بجسدها بجانبِ سوزان المُحلِقة في عالمِها الخاص، تُحيط بذراعها حول خصرها النحيل محاولة إزالة تعبَ عقلَها وصداعَ رأسَها برميِها له في حضنِ سوزان التي سريعاً ما بادلتها العناقَ المُريح.

سألت بنبرةٍ هادئة مُغلفَة بالقليلِ من القلقِ:
– سوزان هل كُلُ شيءٍ على ما يُرام؟ أشعرُ وكأنكِ لستِ كالمعتادِ صغيرتي!

استرسلت مسرعة بنبرةٍ غاضبة يشوبها القليلُ من الترددِ:
– هل فعل والدك أمراً ما؟ هل فعل أي شيء طائش مرة أُخرى؟ أُقسِمُ بأنني. .

قاطعت سوزان حديثَ هايلي الغاضبة بنبرةٍ هادئة وابتسامة حمقاء تُزيِن ثغرها العابس:
– لا! لا شيء من ذلك يا ملاكي، لا شيء.. فقط لا تشغلي عقلكِ المُبدِع بما يحدثُ حولكِ، والآن أخبريني هل ستذهبينَ إلى الحانةِ اليوم؟ كما تعلمينَ والدتكِ ستُقدِمُ عرضاً اليوم!

نبرة التوتر والتشتت سيطرت على صوتِ هايلي:
– لا أعلم، يبدو أنني لن أذهب هذا اليوم، و إلى الأبد!

سألت سوزان بتعجبٍ و هي تستقيمُ جالِسة:
– ما هذا القرارُ المفاجئ؟ ، هل أنتِ على ما يُرام؟ لم أركِ يوماً تكرهينَ الذهاب لحفلاتِ الغِناء؛ خاصة إن كانت حفلاتُ والدتك!
أجابت بهدوءٍ على الرغم من الأفكار الضخمة التي يكتظ عقلها بها:
– بِتُ أشعِرُ أن الغِناءَ لم يعُد يُناسِبُ نفسي، أضيفي إلى ذلك أن حياتي لا تساعد على تقبله، لا تسألي أكثر صغيرتي، لا أشعرُ بالراحة ِمن التحدثِ في هذا الأمر.. ولكن على الأقل سأستمر بالغناءِ معكم! والآن دعينا نبحثُ عن ذلكَ الطويل.
ألقت جُملتَها و وقفت بسرعة ممددة أطرافَها في الهواءِ و أخذت تبحثُ عن قَمحي البشرة ِلتراهُ مستقراً على صخرةٍ ضخمة يراقِبهُنَ بعيون مركّزة وشرود عميق مع ابتسامةٍ طفيفةٍ تُلامِسُ ثغره!

للحظة.. كادت أن تُبادِله الابتسامةَ لولا ذلك السهم المؤلم الذي أصاب قلبها وهي تنظر إليه حينما أدركت أنه يحاول حفظ تفاصيل الواقفة بجانبها بنظرات ممتلئة بحب هائل!
تنفست بعمقٍ و أخذت تجرُ قدميها إلى تلك البقعةِ التي ضمتهُ و يدُها تُشيَّدُ الحِصارَ على يدِ سوزان التي كانت تتحدثُ معها عن شيء ما عجِزت هي عن التركيزَ بهِ أو حتى سماعه!

عاصفةٌ هوجاءُ قد عصفت بعقلها وبعثرت ما تبقى منه، كأن عقلَها زهرةُ هُندباء ضعيفةٍ كالتي تُحيِطُ بهم الآن.

قطفت زهرة هندباء بجانبها وأخذت ترمُقَها بهدوءٍ وهي تُوبِخُ نفسها السخيفة بصمتٍ، أشاحت بنظرها بعيداً عن الزهرة الضعيفة التي بين أناملها وراحت تنظر إلى الماثلين أمامها على بعد مسافة بسيطة، لا تعلم لم تصرفت بتلك الطريقة، أو ما المغزى من تلك الحركة.. أراحت الزهرة فوق شفتيها المحمرة وكأنها تقبلها قبلة وداع، نظرها لم يغادر جسد سوزان وجو، لم تلبث قليلاً حتى نفثت أنفاسها الساخنة عليها لتنتثر عالياً مبعثرة في الهواء، تماماً كحال روحها في تلك اللحظة!
حُبي لكَ كالهُندباءِ، رقيقٌ و ضعيفٌ جداً من نفحةٍ بسيطةٍ يتلاشى.

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.