أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : تصنّع

كتابة : مشاري عسيري

تدقيق لغوي : وفاء الحربي

 

جميع من في هذا الحي أعرفه جيداً. حتى القطط أعرف أماكنها وتنقلاتها، وكل قطة كم لديها من الأبناء. أعرف أحزان كل بيت وأفراحه، باستثناء بيت جارنا المقابل لبيتنا، فأنا إلى الآن لم أفهم هذا الشخص ولا أعلم لمَ يكرهه الجميع، وينعتونه بالدجل والهرطقة.

من نظرتي له يبدو غريباً جداً؛ أشعر أحياناً أنه آتٍ من كوكب آخر. لا يتحدث كثيراً، ويبدو أحياناً أن لا أحد يحبه سوى كلبه.

مرة أخذني أبي معه لمناسبة جمعت أهل الحي، فكان أن قابلت السيد “أوين” لأول مرة.
كان يجلس بمفرده. الجميع معاً يتضاحكون ويتحدثون إلا هو ينظر إليهم ويشرب الشاي. استغليت الموقف محاولاً الاقتراب منه، فجلست على ثالث كرسي بجانبه أراقبه، فقال لي:

  • أهلاً بك صغيري. تعال اجلس بجانبي هنا.
    ارتبكت وقلت: حاضر سيدي.
    بدأ بسؤالي: هل تعرف معنى تصنع؟
    قلت : لا أعلم حقاً ما معناها. إنها جديدة علي، ولكن سمعت في التلفاز كلمة صناعة وظهرت سيارات.. أظنها مرتبطة بصناعة السيارات أليس كذلك؟
    – أحسنت. ولكن ليس هذا ما أقصده. وأشار إلى أحد الحضور قائلاً: انظر إليّه جيداً حين يتحدث معه أحد يبتسم ويضحك معه ثم يلتفت للوراء ليخفي ابتسامته، وحين يبتعد محدّثه يبدأ بالإشارة عليه وكأنه يتحدث فيه. إنه يكرههم جميعاً ولكنه يفعل ويقول عكس ذلك. إن أهل الحي مجتمعون اليوم من أجل اللُّحمة والتقارب والتفاهم أكثر. إنها مسرحية سخيفة يا ولدي؛ بإمكانهم محبة بعضهم البعض وكل واحد منهم جالس في بيته دون حضور المناسبات كهذه.. ما هذا إلا تصنّع يا ولدي.

    خلال الأسبوع التالي لجلوسي بجانب السيد “أوين” بدأت التفكير في كلامه وهل يعقل بأن من في الحي يكرهون بعضهم البعض، وما الضحكات والابتسامة إلا تصنع مثلما قال.

    وبعدها بأيام سمعت أبي يخبر أمي أن السيد  “أوين”  مات إثر حادث سيارة وهو ذاهب لعمله. اغرورقت عيناي بالدموع ولَم أصدق الخبر، وتجمدت قدماي. رآني أبي
    فسأل: ماذا بك؟
    – هل حقاً السيد “أوين” مات؟
    – نعم يا ولدي مع الأسف. الآن سنذهب لدفنه.
    ألححت عليه بالذهاب معه فوافق. رأيت أكثر أهل الحي يمشون في جنازته ويبدو عليهم الحزن.
    حاولت الاقتراب أكثر من قبره. وبعدما استجمعتُ شجاعتي وقفتُ وخاطبتهم:

  • أيها المتصنعون أنتم لا تحبونه.

نظروا إلي بتعجب، وبعضهم لم يعرني أي اهتمام.

سحبني أبي موبّخاً، وعاد بي إلى المنزل.  ركضت إلى غرفتي مباشرةً وأقفلت على نفسي الباب، ومنذ ذلك اليوم أصبحت مثل السيد “أوين”؛ أرى الحقيقة وأقولها، وأعرف التصنع وأمقته.

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.