أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : 1948

كتابة : خديجة عمر

تدقيق لغوي : وفاء الحربي

 

1

هل يعلم الذين سكنوا خلف الجدران، واحتموا في حصون النعم، وتميعوا من شدة الغِنى، هل يعلم القابعون خلف حصون المال، والمراقبون من طرف العالم الآخر، هل يعلمون ما حلّ بنا؟ نحن الذين حملنا التاريخ بين أيدينا وتجرعنا الظلم، وفاض علينا الحصار حتى تحطمنا، نحن الذين بنينا ماضينا وحاضرنا، نحن الذين نروي مستقبلنا ألماً؛ من يعلم ما الذي كابدناه من مشاق لنصل إلى ما وصلنا إليه؟

في مزارع الزيتون، وبين رائحة العشب، وعلى أنغام الهواء الطلق، مشينا بين الجبال الشامخة، اتحدنا.. نحن التاريخ وهم الشهداء، بيوتنا الصغيرة وعائلاتنا الكثيرة، أصدقاء في كل مكان، خيول لا تُحصى وحياة تُروى، هنا، كانت ذكرانا التي بكينا فيها حتى عمت عيوننا، وبحت حناجرنا، ونادينا عالماً لا يجيب فظننّا بأننا منسيون!

وجافانا النوم حتى ظننّا أننا وحدنا الذين لا ننام وصدَقنا، صرخنا حتى ظننّا أن لا أحد يسمعنا، وصدَقنا. كانت القصة، النكبة التي لا تُنسى.

حتى بعد السنين الطوال؛ أقف شاهدة على احتلال الأرض، وضياع الزرع، وموت الجد والعم، أقف شاهدة على النسيان، وعلى خيانة رفقاء الدرب، شاهدة على انتشار مرض الغدر، لا مجيب ولا مساعد.
راقبت مزارعنا وهي تتحول إلى ملاعب، من حدائق غناء إلى فناء واسع، من رائحة الزيتون إلى رائحة البارود، ومن القبور المزينة، إلى القبور المتكدسة، شاهدت بعيني كم تحولت أرضي إلى حزن عميق، وليل لا نهار له، وفقيد لا عزاء له، ومصيبة لا بكاء عليها، شاهدت كم كانت الحياة غير عادلة، فحولت أرضي إلى أرض غيري وبساتيني إلى صحراء لا تشبهني.
ألم أكن ذلك التاريخ الشاهد على كل شيء، ألم أكن بنفسي أرضي ووطني ومستقبلي وذلك العهد؟!

لا كتاب يستطيع حمل مشاعرنا، ولا عالم يستطيع فهم صمودنا، ولا شاعر يستطيع رواية حلمنا. صنعنا الماضي، وحملنا الهموم جيلًا بعد جيل، حتى إذا استراح الأجداد كان الأحفاد قد علموا ما التاريخ، وما حكاية أرض الزيتون، الأرض المغتصبة، والحلم المسروق، والشهداء المنسيون.

كتبنا على الشواهد أسماء الأرواح المجاهدة، أنشدت كل الألسن حكاية الطفولة المسلوبة، صنعنا بأيدينا حجارة شاهدة لنا، نحن الشعب الذي لم يرضخ ولم ينسَ ما هو! كانت حكايات الأطفال وصوت الأمهات وأهازيج الأفراد من تساعدنا فتحمينا، لقد صمدنا وتجاوزنا وعشنا بذكرى الألم ودموع الظلم وشعور القهر والعجز، تعايشنا وتناسينا ولم ننسَ أننا شعب حمل الفأس وزرع الحَب وعاش على رائحة الورد، ركب الخيل فتجسد فيه، وتسلق الجبل فعاش معه، وتنفس الهواء فحمله إلى السماء، نحن الذين لم ننسَ أننا فلسطينيون، أصحاب الأرض والشرف، والبقعة الطاهرة، أرض الأنبياء، أرض المحشر وأرض الإسراء والمعراج وأرض باركها الرب، فلسطين.

2

 

كبرت على قضية الأمة، كانت الأخبار في كل مكان، بيتي ومدرستي وألسنة الأصدقاء، تشربت من قضيتها وكبرت على احترامها ومعرفتها، ظننت أني وإياها واحد، علمت أنها قضيتي وإن اختلف المكان، علمت أن هؤلاء إخوتي وإن بعدوا عني، دماؤهم دمائي، شهداؤهم شهدائي، حياتهم حياتي، وحصارهم حصاري.
الظلم الواقع عليهم يؤلمني، وعذابهم يؤرقني، كبرت على صوت ميس، وقصة ليلى وصورة الحجارة في يد الصغار، قرأت عن الزيتون، عن الأرض المباركة، كبرت وأنا أحب تلك الأرض، وددت لو أني منهم، فأحميهم وأشد على أياديهم وأراقب الجدات وأسمع الحكايات، تمنيت لو أني توسدت أرضهم وتلحفت سماؤهم، من يعلم ما تعني لي فلسطين، وكأنها داري.

محمد الدرة، بطلي الشامخ وحدثي المؤلم في طفولتي وصباي، كان الجدار الذي لم يهتز، و الألم الذي كبر معي، كان تعريفاً للظلم، وشعاراً للغدر، ومعلماً للحزن وللصمت. البطل المقتول والظهر المغدور، الجسد الممتد والطفل المحتضن، محمد وهل كل المحمدين في عالمي أمثالك؟
حملت محمد معي، في داخلي، أقسمت أن أحكيه للأجيال جيلا بعد جيل، أرويه للأطفال، وأضعه مثال للمقاومة، للغدر ولمنع النسيان، ليعلم العالم من محمد وما أرض محمد وما قصة النكبة.
سافرت وداخلي نار، عربية أحترق في داخلي لأجل قضيتي، عربية لم تنسَ ما ماضيها ولا مستقبلها، عربية قاومت كل متطبع في الأرض، عاهدتني ألا يجرفني التيار فأنسى ما قصتي، وما معنى قضيتي، ولأجل من عشت ومحتوى طفولتي.

على بساط ليلى تنقلت، من الماضي إلى هنا، وصوت هالة يتردد في أذني، يحكي بقايا شعب كافح حتى استشهد، ودفع بأبنائه حتى ذهبوا، وأدوا أماناتهم فلم يبقَ منها شيء. حتى حين عادت ليلى، لم أعد تلك الطفلة، علمت أني كبرت حين تجاوزت صورة فلسطين رسمة ليلى، وخرجت عن إطار الصخور، وحجارة الطفل، وظهر محمد الدرة، علمت أن فلسطين قضية أخرى، لم تعد قضيتي وحدي، بل قضية العالم الصامت، الشاهد على القتل!

كما حملت أهازيج الطفولة حبنا لفلسطين، حملت أنا إخلاصي وحبي لتلك الأرض، دفنت داخلي صورة الأراضي الخضراء، والبيوت الحجرية، أثار الهدم، وأجساد الشهداء الكريمة، حملتها وهاجرت، حاولت أن أعبر من بلاد موسى إلى ذلك البلد، لست أدري، الأرض الخضراء تناديني، لست أنا من يتحرك، إنها الرغبة تدفعني، تركت ورائي ماضيَ وحاضري، تركت وظيفتي وأهلي، عبثت بمستقبلي لأجل أن أموت هناك، أحب جنين، أحب بيت لحم، أحب غزة، القدس المحتلة، هاجرت وتركت خلفي رسالتي، لأمي الحبيبة لأبي الحبيب، لأهلي ولأصدقاء طفولتي، إنه حلمي، أليس من الطبيعي أن أطارد حلمي! وإن كنت مجنونة فماذا إذن؟ هل من الجنون أن أتيم بأرض ليست أرضي؟ وأن تطاردني رائحة الزيتون في كل مكان؟ في حلمي وفي واقعي؟ تطاردني الأراضي الخضراء والخيول البيضاء، تطاردني أجساد الشهداء، تناديني تحاكيني تخبرني أن أموت معهم!

3

 

هل من الطبيعي أن يترك شخص بلاده الآمنة، وحياته المريحة، ومستقبله الحالم، ويغادر بكل شموخ ليقابل أصحاب الحكايا ، ويسمع القصص، ويشتم رائحة الصمود، ويتعلم معنى المقاومة، هل كان من البديهي أن نكون معلَم لمعنى الشجاعة؟
قرأت رسالتها إلي، تحكي أنها تحب أرضي أكثر مني أنا، صاحبة الأرض! ترَكت أرضها وجاءت إلي، أنا مَن مر الزمن على وجهي فكانت تجاعيدي شاهدة على قصتي، على كفاحي الصامت. أخبرتني أنها مصابة بالجنون، لكن لم أعلم أنها مجنونة إلى ذلك الحد، قابلت وجهها الملائكي، وعمرها الصغير، أكاد أجزم أنها عاشت على حكايات فلسطين، وأصوات الحرب، عيناها أخبرتني أنها صادقة، صافحت يدي بكل وقار، كأنها تلمس التاريخ وتقرأ الحكايا الكامنة خلف جفاف يدي، وقساوة جلدي.

احتضنتها، تمسكت بي كما تتمسك بشيء مقدس، شدتني كأنها تشد الماضي كله إليها، كأنها تروي عطشها الشديد بما أحمله من ذكريات متبقية، قبلت يدي كأنها تقبل طهارة الأرض، كما لو كانت داخل محراب. صامتة خاشعة وبهدوء ناولتني رسائلها الكثيرة، ولوّحت لي في وداع صامت، راحلة، إلى نهاية رحلتها.
اِنحنت لي بهدوء، بخشوع كما هي، ودعتني كحلم عابر، أنا الستينية صاحبة التاريخ كنت شاهدة على ذلك الحلم، كما شهدت تلك القصة.

اِلتفت، بظهري الأحدب ووشاحي المورّد، بشموخي المعتاد وصمتي الدائم، اِلتفت أراقب مجنونة أرضي عند ذلك المعبر الشاهد على الحكايا العديدة، لوحتُ بيدي، باِبتسامة دافئة، ودعتها كما ودعت أناشيد هالة قصة ليلى، أردتها أن تعود لأرض موسى كعودة ليلى، لمحت ابتسامتها العذبة، الشاهدة على رضاها بما فعلَت، لمحت يديها تمتد إلى السماء بإشارة النصر، كنت شاهدة على جسدها الممتد، على الأرض التي أحبت، كنت شاهدة على نهاية حلمها العظيم.

ركضت، بجسدي المتهالك، بقلبي الذي يحمل الحكايا، لعلي أصل لأخبرها أنها لم تكن بذلك الجنون، أنها كانت بتلك الروعة، وذلك الحماس، أردت إخبارها أني كنت سعيدة برسائلها الكثيرة، لكن خلفي كان صداها يردد أناشيد طفولتها، وعبارتها الدائمة ”قضيتنا لا تموت وإن ماتت الشعوب“، رحلت كما لو كانت حلم عابر، كأني لم أقابلها يومًا ولم أقبلها يومًا ولم أعرفها يومًا. ماتت كما مت أنا في ذلك العام، عام النكبة 1948.

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.