أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : مذكرات الموت

كتابة : عبد العزيز الريسي

 

1

العجوز

‏لم أعتد بعد على كوْني بِجسد بشريّ. أشعرُ أحيانًا بالغثيان، تتعثّر قدماي عِندما أمشي في أماكِنَ مُكتظّةً بالبرجوازيّون، أُتابِع المشيَ ولكِن أتعثّرُ من جديد. ألتفِتُ مِن حوْلي ولا أجِد سوى أكوامًا من الجثث، في كُلِّ مكان، جماجِمُ بشريّةً وأجسادٌ مُختلِفةَ الأنواع، مِنها الضّعيف ومِنها قويّ البُنية ومِنها أيضًا الأجساد المُترهِّلة.
‏أكتبُ هذه المُذكّرات بينما أنتظرُ اليوم الّذي سوف أذهبُ فيه لِعبدالعزيز. هكذا إذن، الموت يكتبُ عملًا يسرِدُ فيه قصص ضحاياه. يُصلّون عِندما أخبِرهُم أنّهم سوف يرحلون في تُلك اللّحظة، يبكون وينتهي بهم الحال إلى الصِّراخ حتّى يلفِظون نفسهُم الأخير، يشتمون ويلعَنون الوحش الّذي أمامهُم، ولكِن هُناك منهم من كان مُستعِدًّا، حيثُ في ليلةِ الخميس كنتُ أمام شُرفة منزِل عجوز يرتدي بِزّةً خضراء وبِنطالًا أبيض، وعلى رأسه قُبّعةً وبيده كوبًا من الشّاي. سألتُه: “هل أنت مُستعِد.”
‏ردّ قائلًا: “كنتُ أنتظِرَ هذا اليوم مُنذُ فترةٍ ليست بالقليلة.”
‏وبعدها ذهب يرتدي بِدلةً زرقاءً لائِقة وجلس مُبتسِمًا أمامي، كان آخر شيء قالهُ لي: “أشتمُّ رائِحتك، رائِحةَ الموت، إنها ليست سيئةً على الإطلاق، إنني آتٍ يا عزيزتي.”

 

2

المتجر

‏إنني أحكي عن الموتى، وهذا، أيُّها القارئ، ليس شيئًا غريبًا عليْك، فلطالما بحثت عن سبب الموت، السّبب الجوهريّ للموت. مُنذُ عقود لاحقتهُم، تتبّعتهُم، مشيتُ ورائهُم وأخبرتهُم أنّ وقتهُم قد حان. يصعِبُ عليهِم أحيانًا تفهُّم فكرةَ الموت، فمِنهُم من يشتري السّكاكِر لأبنائه من السّوق، وبعدها، بدقائق معدودة، يستلقون على الأرض ميّتين. ما هو السّببُ إذن؟ السِّرُّ الغامض الّذي يعجزُ البشرُ عن فهمه هو أن الموتَ ليس سوى رِحلةٍ للحياةِ الأُخرى.
‏نظرتُ مِن حولي، إنني غيرُ مرئيِّ، لا أحد يراني سِوى رجلٍ واحِد، صاحِبُ متجر بيْع المواد الغِذائيّة. رمقتهُ بشيءٍ من الغرابة من على عتبة باب المتجر، وكان، كعادة أغلب البشر، ينظرُ إليّ بِخوف، فمن لا يخاف مِن الموت؟ دخلتُ وتسمّرتُ أمامهُ ولم ألفظ بأيّة كلِمة، حينها قال وهو يرتجِف:
‏- ابنتي… إبنتي… أُريدُ أن أودِّعَها.
‏ليست لديّ أيّة مشاعِر، أيّة أحاسيس.
‏- هل أنت مُستعِد؟ قُلت.
‏- أنا… أنا مُستعِد. ولكن ابنتي… ابنتي ليست مُستعِدّة، لا أُريدها أن تكونَ وحيدة.
‏كرّرت سؤالي:
‏- هل أنت مُستعد؟
‏لم تخرُج الكلِماتَ من فمِه، حينها خرجتُ من المتجر، ودخل بعدها بدقيقتين لصٌّ نهب المتجر، وقتل صاحبه بالخطأ عِندما ضربه بِمضربٍ حديديّ، سالت الدِّماءُ من رأسه، نظرتُ له، ونظرَ إليّ كذلك، حاول أن يتحدّث ولكن لم تخرجُ الكلِماتُ من فمِه.

 

3

عَبد العزيز:

‏تبتعِدُ الآن الحياة، عِندما يلفِظُ البشرُ أنفاسهُم الأخيرة. يشعرُ أقربائهم وأصدِقائهُم بالحزن والكآبة، وهذا أمرٌ طبيعيّ. يأملُ القريبَ من الموْت بأن يرجع للوراء، أن يعتذِرَ لمن أساء له، أن يحتضِن زوجته ووالدته، أن يُكرِّس حياتهُ لفعل الخير، وأن يُحقِّق مُبتغاه. ولكِن عِندها يفوت الأوان عِندما أذهبُ لهُم، كيف أرجع للوراء؟ يتساءلون.
‏كنتُ في زقاق ضيِّق عِندما كان عبد العزيز، الرّاحل الجديد، ساندًا ظهرهُ إلى الجِدار، يتأملُ المبانيَ ويقرأُ كِتاب الكوميديا الإلهية لدانتي أليغييري. يعلمُ أنني بجانبه، ولكن، وياللغرابة، لم يعرني أيّة اهتمام، حتّى أنهُ لم ينظُرَ إليّ. وقفتُ أمامه، ولم يرفع رأسه، لم يتلفّظ بأيّةَ كلِمة.
‏- هل أنت مُستعِد؟
‏ردّ عليّ وعيناه تستقِرُّ على صفحات الكتاب:
‏- دعني أنتهي من هذه الصّفحة، بعدها افعل ما شِئت.
‏- هل أنت مُستعِد؟
‏- نعم، نعم إنني مُستعِد، هل أنت مُستعِد؟
‏لم يسألني أحدٌ هذا السؤالَ أبدًا، ووجدتُ نفسي أسأل، كيف أستعد؟ إنني الموت؟ هل من المعقول أن أكون مُستعِدٌّ كذلك للموت؟
‏- تزورني في خِلوتي، تُحدِّثني وتسألُني عن الموت؟ أكمل.
‏أغلق كِتابهُ وأكمل قائلًا بِصوت هادئ:
‏- هيّا، خُذني، فالموت ليس سوى البِداية. أعلم أنّك كُنت بِجانبي، لطالما كُنت كذلك، فهيّا خُذني.
‏لقد كانت أفكارهُ تِلك مُختلِفةً عن جميع البشر، لم يكُن خائفًا، وفوق ذلك، شعَر بأنني كنت بجانبه. إنّهُ هادئ، بارِدٌ كالجليد، لا يُظهِرُ أيّةَ مشاعِر، ذلك الهدوء والسّكون كان غريبًا، جلستُ بِجانبه، وأخذتُ الكِتاب ووضعتهُ بين يديّ، وعبد العزيز، انتظر اللّحظة الأخيرةَ بِكُلِّ هدوء.

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.