أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : عطب

كتابة : يُوئِيل

تحرير : وفاء الحربي

 

 

ينسابُ الضوءُ من شرفتهِ صانعاً ظلالاً تتموج على وجهِ الغرفة. ضجرِاً يظلُ بفراشهِ متخذاً منه ملاذاً من ضوء الصباح. يفتحُ عينيه على مضض ليشاهد فضاءَ غرفته المعتاد، ثم ينهض من السريرِ مطأطِأً رأسه بكسلٍ متهرباً من الكرى. ينتابه ألم يجبره على الانحناء في الوقت نفسه الذي يلاحظ، في الخارج، موقفاً ينسيه الألم؛ شارعٌ أنهكه الصمت، وطيورٌ تحلقُ بجذل. انتصبَ شعر جسده الكث لذلك المنظر المهيب، واجتاحه ارتياحٌ خفي، فالتوتر الذي هدّ بنيانه وضعضعه؛ أصبح الآن ضياءً به يقين. ما عاناه في الإجازة كان كالغرق في هاويةٍ بلا قرار، ولجةٍ بلا قاع، وكأنه بات في هجوعٍ سرمدي، على سريرٍ ضارمٍ، يستلقي به ولا يعود جزءٌ من جسده وكأن هناك من يستلم الدفة. لقد عانى الكثير، وما يعانيه الآن لهو أشد بأساً، فقد مُنيَ بشخصيةٍ انطوائيةٍ.

تابع سيره مزمجراً ليبلغ صحوته. أمسك بمقبض الباب وبتؤدة فتحه وخطى خطوته الأولى البائسة نحو المخالطة فوجد أمه أمام الباب، فغمرها سلاماً وهو عابسٌ بوجهه؛ فاليوم هو يوم العودة إلى الجامعة. نزل الدرج المتصدع الكئيب الذي ما يزال يصدر صريراً، وكأنه يقطع أرضاً قاحلة مليئةً بالألغام ينجو منها يوميًا بأعجوبة. وجد نفسه منعزلاً فاستصرخ قائلاً: يا إلهي أليس لهذا نهاية؟

ثم وبخ نفسه قليلًا: عديم منفعة لا تعطي ولا تبذل، النوم لي لوعة والسهر حاجة، واجتياح النوم صباحاً هاجس ومقاومته لعبة. قد تجرعت مرارة الحياة، قلبي مجروح، وأنا تحملت طرقات السقم ومناجم الضنى، وتحملت اللبود في سجون الألم. ويأتي دوام لمدة سبع ساعاتٍ يعدمني. لن يفعل، فالدنيا قد ولت حِذاء، وما بقيَ إلا صُبابَة.

 

من قدحِ قهوتهِ رشف رشفةَ مدمنٍ تتسرب مخدراتهِ إلى أوردته فيتوارى في جوٍ مبهمٍ، يزخر كَيْسًا، ويزداد حيلةً. ظلّ ثاويًا لعدة دقائق يتأمل قدح قهوته، وكأن روحه تضمحل تدريجياً هناك.

تاه نظره بين أعمدة البيت، رأى كومةُ ثيابٍ مهملة، فتأملها ونشطت مخيلته بإفراط. بزغت فكرةٌ أولى بعقلهِ و لذعتهُ وجرَّت أمامهُ صوراً متعاقبةً وكأنهُ على متن قطار مندفع. في لحظةِ تشويشٍ غامت الصورُ بتخيلاته. لا أصوات هنا تدل على الوجود. بيتٌ يبدو وكأنه غير مأهول، حيطانٌ يستبد الصمت بها، ويتجبر البؤس بها فيذبل الهواء ويسقط عرمه. بتثاقلٍ يخطو نحو الباب مغادراً البيت، يمسك المقبض وكأنه يقبض على نارٍ تلظى. خطى خطوته الأولى نحو الملأِ الحاضرين، من أهمل وجودهم وتشبث بغيابه طوال الإجازة، ما اِنفك حينها أن يحسب أيامهُ الباقية ، التي مهما طالت تبدو قليلة، وكاديةٍ في أمره. ركِب سيارته متوجهاً إلى الجامعة. هامَ بعيداً على الدربِ وحده، بقاؤه يُعَدُ مجهولًا فقدماه لن تمنعه من التقدم سراً. سرَحَ لبرهةٍ وهو يقود السيارة “أوثقتَ خيوط حياتي جيداً واستهليت ذهاباً، ومجرد النظر إلى جانبٍ عشتُ به طويلًا يريبني وأخاف أن أسقط، أخاف ألّا أتذكر من أكون، أخاف أن أنسى أمي، أو أن يهويني الموت من طودِ الحياة الشاهق، لا أريد أن أنتظر فالانتظار قد خدر عقلي وتركني لياليٍ وأنا واجمٌ، منكبٌ على سريري، كمثلِ لوحٍ خشبي كل ما خلفه تكسر فيسقط عميقًا ليرتطمَ بفضاءٍ شاسعٍ -الخوف- حينها لن يفيد الانتظار، إلى أن يلاطفُ الموتُ جسدي، وينزعُ منهُ خلوده، ويجعلُ أمرهُ أبدي” نتاج العزلة والانطوائية أفكارٌ مظلمة وهذه الأفكار تراوده يومياً. بلغ واستقر بمحطته وكمثلِ كلِّ عامٍ يجدُ صعوبة للحصول على مكان ليترع الفراغ بسيارته، فكل سنة تكثر السيارات ويتضاءَل الفراغ، شيء مضنٍ يخوضه كل صباح. طال البحث وبلحظةٍ رمق بها مكانًا فسُعِد بذلك علَّه يلحق الدكتور قبل أن يؤول الأمر لعدم الولوج.

 

دخل بعجلٍ ورأى اِكتظاظًا غص، لم يتعود على هذا الحشد، اجتاحته رغبةً فرضت نفسها فرضًا بأن عليه أن يعاود أدراجه ويشتري ماء لكي لا يغلبه التوتر، فعلق بمتاهة محتدمة بعقله ما بين الجمع والانطوائية فأثارت الرغبة حساً مترامِ الإدراك فظهر الأثر على جسده وما حوله. شحبت شفتاه، وآل الهواء غلظةً فزادت رطوبته، أجحف بحقهِ وكبله بأصفاد الإرهاق. أهدابٌ تفتح، يودع بها الظلام بحثًا للنور فالرغبة مزجت بعقله حرب شنيعة بين الظلام -الموت- والنور -الحياة- فالسجال جعل من أجفانه بالنهاية تفتح قبل وقوع حدث مشؤوم. قلبه مازال يزعج ضلوعه من خوف ما اجتازه، وأدرك بعد أوهامه المرعبة أنه بجوٍ باردٍ ولكن هذا نتاج الانطوائية فكان لها تأثير نفسي سطعت شواهده. المكان المكتظ لا يروق له البتة، ولا يستطيع أن يدرك كنة هذا الشعور الخفي، ولكنه بأي حالٍ من الأحوال لا يحبه، ولا يشعره بالراحة. بات يتحدث بلا صوتٍ، ولا يسمع صدًى لصراخه وكأن ما يتوهمه يصبح حقيقة، أو أنها الحقيقة ولكن هو لا يدرك شيئًا. كل دقيقة لازم بها غرفته وحيداً، تكالبت وأظهرت شرخاً به، فتأثير الخروج من غرفته المكنونة، أثر على عقله بصرامة. تيار من الهمسات حوله تجعله متيقظ، الدكتور على وشك الخروج، يكاد يسأم من الدراسة فمازال مشواره طويل. خرج الدكتور مستعجلًا، كعادتهم يأخذون أكثر من وقتهم سواءً بالشرح أو التحضير، ليس هناك جرس إنذار كمثل أيام المتوسط والثانوية، كان صوته شدواً وترنماً بالنسبة للطلاب ففيه تأتي الريح تحملنا للخروج وفي رجوعه فِرارٌ أو بقاء. يزحف الوقت بتأنٍ من ثانية لأخرى، وهو ينتظر محاضرة وأخرى، فقصته قصة حافلة بالظلام والفجائع. جف جوعًا فأذعن له، فذهب إلى الكافتيريا.

 

طلب شيئًا يأكله وإذا بشخصٍ يعرفه يسلم عليه، رد عليه السلام، وجلسا. يسأل أحمد: ما الأخبار يا رجل؟ رد رائد قائلًا: الحال في أشد الفوضى والاضطراب، ولن يقوم حالي أبداً والجامعة تسيطر عليَّ.

أحمد: لا تيأس يا رائد، فعقلك لن يدين نفسه على هذه الأحداث، فالاستنكار يقع على الجامعة.

رائد: لا عليك، الأمور باليد -إن شاء الله- كيف حالكَ أنت؟ لم أركَ منذ زمن؟

أحمد: لا أعلم، أعتقد بأن البيت له تأثير على عدم خروجي منه. أصبحت انطوائيًا بشكلٍ مقيتٍ بالنسبة للآخرين. طاعون الانطوائية تملكني، فأذعنت له.

رائد: لعل حضورك يخفف عنك، وتمضي يومك داخل سياج مليْء بالأشخاص.

أحمد: لعل وعسى. شكراً لك. لدي محاضرة الآن، إلى اللقاء.

رائد: قبل أن أودعك، سنجتمع الليلة باستراحة بدعوة من أيمن. إن أحببت فيمكنك الحضور.

أحمد: إن سمح وقتي فسأحضر. شكراً للدعوة.

يذهب أحمد على عجلٍ ليحضر آخر محاضرة له. ينام بوسط المحاضرة لعل الوقت يمضي بسرعة. ينتهي دوامه ويعود أدراجه -البيت-. يدخل البيت وهو يشعر بالإعياء واللغب، يسلم على أمه ويقول لها: هناك طلعة من الممكن أن أذهب.

ترد الأم: ومن يبقى معي في هذا البيت الأبكم، لا أريد منك أن تذهب، يكفي أنك تذهب لدراستك وأنا راضيةً عنك، لن تذهب وهذا ما ستفعله.

 

لم يتجاسر على النطق والرد على أمه. كتم غضبه وهاجت عيناه فإذا به يرَ ذلك الفج، ومازالت كومة الثياب مركومة، تبدو رثة، وأكثر تمرغاً مما كانت عليه قبل ساعات. ينادي أمه ولكنها لا تجيبه فيصعد درجه الذي لا يتبدد صريره، يفتح الباب، يرمي نفسه على السرير، ويبوح بأسراره لوسادته وغرفته. ينظر لتجاويف سقفه ويغمض عينيه بإحكام ويعد حتى العشرة ثم العشرين. هكذا هو يجعل الوقت يدبر. تهوي به عينه في سبات سحيق. يقوم بفعل كل شيء ينبغي ألّا يفعله في يقظته فلا رقيب ولا حسيب هناك، لكن أفعاله كانت غريبة فحالته في الأحلام طبيعيةً أكثر من واقعه. ينهض بعد غفوته ويبصر تدلي الشمس الثقيل نحو نهايتها وتلك الظلال التي تتطاول وتجعل ظل البيوت تتصادم ببعضها، يغشى الظلام ويجثم بحضوره على الأحياء. تنظر السماء إليه وتحرسه بنجومها وشهبها وسنا ضوء قمرها. قد حل الليل وأحمد مازال ينظر من نافذته للنجوم المحدقة به، يغمض عينيه ويتنهد، ينال منه حثيثًا ويقرر أن يعصي أمر أمه ويذهب مع أصدقائِهِ. يخرج من النافذة ليرخى خِنَاقه، ويرفع غُلَّه من أوامر أمه المجحفة. وثب وسقط على الأرض، انتصب بعد انكماشه، وأخذ يشاهد الطريق الذي سيسلكه إلى أن رأى سيارته فذهب إليها وكأنه لصٌ يمشي ببطء. ركب السيارة وقاد خارجاً من البيت بسرعة. هذه أول طلعة له. أصبح الآن مستقلاً كشمس، لا تخيفه المشاكل فخروجه لأول رحلة هي بداية رجوع صحته ووضوح أمره. يصل إلى الاستراحة وإذا برهطٍ منهم في المقدمة فتبسم أحمد وأوقف السيارة. نزل بهدوء وسلم عليهم فتعجبوا من وجوده، فقد كان، سابقاً، كثير الحديث، حتى قبل أربعة أشهر عندما تغير وتخلى عن أصدقائِه، مفضلاً الانطوائية عليهم.

 

أمضى الوقت معهم بلعبٍ ونقاش، وما اِنفك يلاحظ نظرات الشفقة تجاهه. ورده اتصال من أمه وهو بمعزلٍ فلم يجب. لم يتوقف الرنين إلى أن أجاب: ماذا تريدين؟ صرخت باسمه مستنجدةً به. لقد استيقظت في ظلام. أجابها: سآتي حالًا. خرج مرعوباً مستعجلاً.

مسرعاً يمر بكل شيء يعرفه بلا تمييز، المدرسة المظلمة، الهلال، المقبرة وسورها المكون من الركام. احساسٌ يغور بأن الأمور ستختلف. وصل للبيت ونزل راكضاً لينظر ما بأمه. يجد ألسنة اللهب تلتهم المنضدة وأمه واقعة على الأرض منهارة.. أسرع يخمد النار ثم اقترب من أمه محاولاً تهدئتها. تشبثت به كطفلٍ صغير وجد مصدر أمانه. بدأت انسكبت دموعها مجدداً وهي تخبره بأنها لا ترى شيئًا فسألها ماذا حدث؟ فأجابت: استيقظت قبل قليل أبحث عن مفتاح الإنارة.. وجدته وضغطت عليه مراراً إلا أنه لم يعمل.. لا ضوء ينبعث منه.. ظننت أن العلة من الكهرباء، فأخرجت الشمع وأعواد الثقاب. أشعلت أول عودٍ منها، وأحسست بوهجه دون أن أراه فذعرت بشدة. ثم حاولت أن أتماسك لظني أني واهمة وأن عود الثقاب لم يشتعل فرميته على عجالةٍ دون أن أُطفئه وأشعلت واحداً آخر، ولكن هذه المرة وضعت يدي الأخرى أتحسس اللهب، شعرت به وتيقنت أنني لا أتوهم. فهم أحمد حينها لماذا دخل والمنضدة يأكلها اللهب.

 

قاطع حديثهما طرق على الباب، فذهب أحمد ليفتحه. خاطبه الزائر: أنا جارك يحيى أريد أن أطمئن عليك فقد شاهدت ألسنة اللهب. هل أنت بخير؟.

أحمد: نعم نحن بخير. كان مجرد عود ثقابٍ أشعلته أمي.

يحيى: ماذا؟ أمك هنا في البيت؟.

أحمد: نعم. ماذا هناك؟.

يحيى: ولكن أمك قد توفيت قبل أربعة أشهر. ألا تدرك ذلك؟

يصفع الباب بقوة، وهو ليس بكامل وعيه من هذا الحديث المجنون. يجتاحه الظلام فيخبِئ رأسه بين ركبتيه بعد أن كور جسده ولف ذراعيه حول نفسه. أصابه ذعرٌ، ووصبٌ، ونحيبٌ، اضطرب كاضطراب الرِشاء حول نفسه، بات ليله طويل لايليه نهار، اختلطت بعقله مؤشرات حسية، فما استطاع أن يفهم أو يستقبل أي شعور، ظل كجدران بيته. حزنٌ صامت همس بقلبه حتى حطمه، لا يريد أن يصدق بأنه كان يعيش خيالاً منذ أربعة أشهر. انهار عندما تيقن أنه عاش وحيداً، وصنع له شخصية برأسه تأمره وتنهيه وكأنها أمه. بات يتحدث مع نفسه ويقضم أظافره وينشج في بكائِه، ينبش في حجرات المنزل يبحث عن أي شيء يدل على وجود أمه. تحت الأسرة، خلف الأبواب. يريدها أن تتلمس وجهه وتمسح دموعه مهدئةً إياه، وتقول له تلك الكلمات الخاصة بينهما، فتفرح قلبه. قد اقتص من ذكرياتها، ولم تبقَ هي بذكرياته، بل كانت تتجول في أوهامه. كل يوم يستيقظ بتوجسٍ، هل مازالت أمي محتفظة بي؟ والظلم أنه من يهرع لذكراها ويتذكر وجهها المألوف. لم يتحمل ما يعانيه وغشاه النوم. استيقظ على انسياب آخر للشمسِ، على منضدته المحترقة معلنةً فجراً جديداً. أشعل حرائق هاوية، من اتخاذه للانطوائية درباً. فالانطوائية ما هي إلا طريق مقفر نحو شمس ملتهبة، وصحارٍ جدباء لن تجد بها واحة ظل. الانطوائية مجرد ظلام ينزع حياة الآخرين من المجتمع ويجعلهم منعزلين، ويسعدون بالعزلة لأنها الشيء الوحيد الحي لديهم. الانطوائية هي ورقة بيضاء، قد سقطت أسطرها وذابت، لتلوثها وتحيل بياضها سواداً، يصبح حينها الشخص كالعدم الظاهر “فراغٌ نراه يأتي ويذهب”.

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.