أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : حفار القبور

كتابة : عبدالعزيز الريسي

 

لقد كانَ الهواء طازجًا، والصّباحُ هادِئًا، والشّمسُ دافِئة. بكر سُكّانُ الحيّ إلى عملهِم، وذهبَ الأطفالُ لِمدارِسِهم. تُزقَزِقُ العصافير، تخرجُ الحشرات من جحورِها، وتنبحُ الكِلاب. تنهضُ الأرملةَ من سريرِها وتُمرِّرُ أصابِعَ يدِها اليُمنى على صورةِ زوجِها الراحِل، ويُدخِّنُ العجوزُ التّبغَ أمام شُرفةِ منزِله، وينظرُ الشّابُ الوحيد الّذي لم ينَم طوالَ اللّيلِ للِنّاسِ من نافِذتهِ. أثناء ذلك المشهدَ كُلِّه، يرجعُ روبِرت، البالِغِ من العُمرِ الواحِدَ والخَمسينِ إلى غُرفتهِ في الطّابقِ السّابِع، يعتلي الدّرجاتِ بِصُعوبةٍ وبؤس، يسحبُ أرجُلهُ حتّى يصِل إلى غُرفتهِ الفارِغة.

لم يتحدّث روبِرت مع أيّ أحدٍ لِمُدّةِ عاميْن، فهوَ عبدٌ لِلأوامِر: “افعل هذا يا روبِرت، افعل ذاك. عليكَ أن تحفُرَ قبرانِ اليوم”.

ويرُد: “حسنًا سيِّدي”.

لم تعُد لديهِ رغبةٌ بالحدِيثِ مع الأحياء، فجميع من يُحدِّثهُم هُم أصدِقاءهُ الوحيدون، الّذينَ يحفُرَ لهُم منزِلهُم الأخير، الأموات. عاشَ روبِرت بِجانِبِهم لِمُدّةَ عاميْن، حدّثهُم، حكى لهُم قصص الأحياء، ضحك وحزن معهُم، دخّن السّجائِر بِجِوارِهم وشاركهُم بعض اللُّفافاتِ أيضًا. يُضيءُ شمعةً ويجلسُ بِجانبِ صديقه الشّاب، مارك، الّذي ماتَ جرّاء حادِثِ دهس، ويُحدِّثهُ عنِ ابنته ليزا، الّتي تدرسُ في الصّفِّ الرّابع، يختلِقُ قصصًا عنها، ويُقهقِهُ مارك ويبكي فرحًا، ويسأل عن زوجتهِ مارثا، ويختلِقُ روبِرت قصصًا عنها، وهكذا، يقضي روبِرت أيّامهُ في المقبرة.

لقد مضى عامين منذُ آخِر مرّة تحدّث فيها روبِرت مع الأحياء. ولكِن اليوم، بعد انتِهاءه من حفرِ القبر الثّالث، أسند ظهرهُ على جِدارِ غُرفةِ الطّعام، وكانت هُناك طِفلةٌ واقِفةٌ على بُعدِ مِترٍ من روبِرت، تنظرُ لِوالِدتِها الّتي كانت جالِسةً أمامَ قبرٍ لأحدِ أصدِقاءِ روبِرت.

نظر لها روبِرت برهةً وقالَ لها:

“يومٌ سعيد!”

وفكّر في نفسِه: “ما الّذي يجلبُ السّعادةَ لهُم في هذا المكان؟”

ردّت الطِّفلةُ قائِلة:

“لا أُريدُ البقاء هذا المكان، إنّهُ يُخيفُني”.

“وما الّذي يُخيفُكِ يا صغيرتي؟”

“إنّ هذا المكان مليءٌ بالأشباح”

“هل تشعرين بالخوف؟”

“نعم، لقد ارغمتني والِدتي على القدوم”

“لا داعيَ للخوفِ يا صغيرتي. المكانُ ليسَ سيئًا لذلك الحد، وأفهمُ ما سبب خوفِك، وأنتِ صغيرة، وسوف تنضُجين قريبًا…”

وأكمل:

“أنظُري يا صغيرتي، عِندما كنتُ طِفلًا، رُبّما كنت في عُمرِك، كانَ والِدي يأخُذني لهذا المكان ويقولُ لي: لقد وُجِدنا لكيّ ينتهي بِنا المطافُ هُنا، ومِن بعدها يأخذُنا الرّب إلى الجنّة.”

“أتعني جميع من في هذا المكان في الجنّة؟”

“نعم”

“وما الّذي يوجدُ في الجنّة؟”

“جميع ما تريدينهُ يا صغيرتي”

ردّت الطِّفلةُ بِحماس:

“أُريدُ والِدتي أن تكونَ معي، وصديقاتي وقصصي المُصوّرةَ وملابِسي، وأُريدُ تِلك الدُّميةَ الّتي تُعرضُ في التِّلفاز!”

“سوف يَعطيكِ الرّب كُلّ ما تتمنّينهُ يا صغيرتي”

“وأنت، ما الّذي تُريدهُ عِندما تكون في الجنّة يا سيّدي؟”

صرخت الأمُّ مِن بعيد:

“هايلي! هايلي! تعالي مِن هُناك، بِسُرعة، تعالي!”

ركضت الطِّفلةَ نحو والِدتها، وبقيَ روبِرت جالِسًا هُناك، يُشاهِد الطِّفلةَ وهي تركُض، يُشاهِدُ والِدتها وهي تمسك يدها، يُتابِعهُما حتّى يغيبانِ عن نظرِه، ويحتفِظُ بإجابتِه.

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.