أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : المِحنة العابرة

كتابة : خديجة عمر

 

1

الثامن من أغسطس | ١٢ بعد منتصف الليل:

أتحدث مع أصدقائي وأضحك كثيرًا، كان من النادر أن يُضحكني أحدهم بهذا الشكل الهستيري، غير أن أصدقائي “في مواقع التواصل” أثبتوا أنهم قادرين على ذلك بشكل مؤكد.
تشاركنا أحاديث عدّة ومختلفة، الساعة كانت تشير إلى الثانية عشر بعد منتصف الليل، أنا الوحيدة المستيقظة والبيت يقبع في هدوء تام، وأنا أضحك كالمجنونة.
سمعت أصوات تكسير، وحفر وهمس، صادرة من مكان قريب، خمنت أنه المطبخ لكن من ذا الذي يعبث في المطبخ والكل نائم؟ سكنت في مكاني من شدة الخوف، لقد علمت لماذا كنت أضحك بهذا الشكل! هل لدي ذلك الشعور الذي يسبق المصيبة؟ هل كنت خائفة دون أن يبدأ شيء؟ هل كنت أعلم ما الذي سيؤول إليه الأمر؟ ربما.
انتقلت إلى تطبيق المراسلة وكتبت في مجموعة “عائلتي” ما هذا الازعاج؟ وأنا اعلم أن الكل يمثل النوم في غرفهم الخاصة، فيرد أخي الأوسط لا بأس نحن نُقطع لحمًا!

ما هذا الجواب الغريب، لحم في هذه الساعة؟ تملكني الخوف الشديد والرغبة الجامحة في الهروب، هل كنت أعلم؟  أخي الذي لا يستطيع رؤية اللحم كيف سيقطعه؟ ومن “نحن” والكل يمثل النوم في هذه الساعة من الليل؟ تملكتني الجرأة أن اتحرك لأنظر ماذا يحدث غير أنها ذهبت أدراج الرياح في أقل من ثانيه. ورددت داخلي كل أذكار ما قبل النوم واستلقيت وغططت في سبات عميق.

 

2

الثامن من أغسطس | ٧ صباحا:

استيقظت، جدران بيضاء لكنها مظلمة، وهدوء يسيطر على الأجواء بشكل يخنقني، فتحت عينيّ ألفها من حولي فلا أرى غير السواد رغم أن الجدران بيضاء، لقد علمت؛ كان السواد داخلي! رفعت يدي فسمعت صوت اصطكاك حديد بعضه ببعض، سلسلة؟ يدي مكبلة بسلسلة إلى السرير، همست بقلة صبر متسائلة “أين أنا؟” حركت جسدي ونهضت وبقيت بقرب السرير كأنني بهيمة مقيدة إلى جذع شجرة كي لا تهرب، بالأمس انتهيت من قراءة “كوخ العم توم” هل كنت أنا توم هنا؟ مقيدة كالعبد الضائع.
فُتح الباب بعد انتظار متوتر، أرى زيًا عسكريا وامرأة تغطي الظلمة وجهها، ألقت التحية بشكل آلي وقالت حديثا كان كالموت بالنسبة إلي.. تمنيت لو مت، تمنيت كثيرًا لو مت، وعلمت لماذا كنت أضحك بالأمس بذلك الشكل، لقد كانت أخر مرة أضحك بها في حياتي كلها وانتهت فرحتي في ذلك الوقت وبدأ الظلام..
لم تسعفني الذاكرة لأعلم لماذا أنا هنا وكيف انتهيت لهذا المصير، لكن الصدى كان يردد “هل قتلتِ الرجل؟” تسري داخلي قشعريرة كلما سمعت ذلك السؤال، أنا لا أجيب لأنني لا أتذكر، ماذا فعلت غير أني نمت، لا أستطيع تذّكر شيء، الرؤية معتمة وأنا أغرق في الظلمة!
خرجت من فمي مقاطع متعددة رُتبت في جملة “أين أنا”
نفثت الهواء بقلة صبر وقالت “آنستي! أين كنتِ في الثانية عشر صباحا”
نظرت إليها وسبحت في عينيها، سوداء واسعة، رموشها كثيفة وطويلة تركز نظرتها عليّ بشكل مخيف، لقد غصت داخل عينيها وأنا استنجد، استنجد لأنني لا أعلم ما الذي حدث وأين أنا ومن الذي قتلت.. لقد كان في داخلي شيئًا يصرخ لكنه لا يتعدَ حنجرتي، يصرخ داخلي ثم يموت كما ماتت كلماتي من قبل.

 

3

الثامن من أغسطس | ٩ صباحا:

أعادتني تلك الشرطية لغرفتي المظلمة، لسريري الأبيض القابع في الظلمة، شعرت أنني في موطني، هل كنت دائمًا اعيش الفراغ وأصدق ما يُقال عني؟ فكرت كثيرًا حتى انتابني التعب، وقررت أخيرًا أن أسأل لعليّ أعلم ما يحدث. سألتها:
“سيدتي، ما الذي حدث أخبريني؟”  همست بشكل خائف وجل، وتذكرت -كأن على رؤوسهم الطير- وشعرت حقا أن الطير فوق رأسي، لقد كنت خائفة أكثر من أي وقت مضى، أكثر من خوفي من نتيجة اختباري، واجتيازي، وأكبر من خوفي من وظيفتي وتجربتي الأولى.. كنت دائمًا أخاف لكن تلك اللحظة لقد كنت الفأر في عرين الأسد.
أجابتني، وليتها لم تفعل، هل كنت دائمًا بهذا الشر؟ هل كنت مصدر شر يختبأ خلف قناع الطيبة؟ كان الناس من حولي يخبرونني أني طيبة وصالحة ومن النادرين على وجه الأرض، وروحي المستعدة للتضحية كانت تأسرهم، ابتسامتي المشرقة وقناعي الصالح، وقربي من الله.

هل كنت بهذا السوء لأفعل ما قالته؟ أحقًا فعلت ذلك؟ المخيف أني لا أتذكر مطلقا، لقد كنت أضحك ثم نمت، أما الباقي فلا أتذكره.
أعدت ما قالته مرارًا وتكرارًا داخلي، وشعرت أني ضائعة، لا أحد هنا ولم ألتقِ بعائلتي، هل تخلوا عني؟ لا أستطيع أن ألقي اللوم عليهم حقيقةً، لو كنت حقًا فعلت ما قالت فأتمنى أن أموت شر ميتة وأن أرحل عاجلا، فالأرض لا تستحقني.
صليت لله، أن يغفر لي ذنبي، طلبت من الله أن يغفر ما فعلت إن كُنت فعلت ذلك حقًا! صليت وبكيت وأنا في غاية الندم، تبت إلى الله مرات مختلفة، لكن توبتي هذه كانت أصدق ما فعلت، لقد طهرت روحي واختفت.

 

4

الثامن من أغسطس | ٩:٣٠ صباحًا

طُرق باب ما. في بادئ الأمر ظننته باب غرفتي، صوت مألوف أعرفه، شعرت بالحنين لأقصى درجة ممكنة، لم يكن ابتعادي عن ذلك الصوت المحبب لي إلا بضع ساعات لكنني شعرت بالحب والأمان حين قال: “هل أنتِ بخير”

وبكيت، بكيت كما لو أنني انتظرت ذلك السؤال وتلك العينين المليئة بالاهتمام، بكيت ضعفي وفقداني لذاكرتي وضياعي القابع في الظلام.
شدني إليه وامسك بيدي وقال: “لا بأس! دعينا نسترجع ما فعلت، سنخرجك من هنا بأي فرصة ممكنة حتى لو اضطررنا للكذب.”

شعرت بشيء ما هزني وأعادني إلى ضياعي بعد فترة مطمئنة، أن نضطر للكذب هذا يعني أنه لا يصدقني! ولم أعتب عليه لأنني أنا بنفسي لا أعلم هل فعلت ذلك أم لا. تساءلت في داخلي إن كان على المرء أن يموت من فرط الضياع والتشتت وسألت الله في إخلاص تام -يا الله أعد لي ذاكرتي كما أعدت يوسف لأبيه-
أعادني سؤاله للواقع: “هل فعلتِ ذلك حقًا؟”

قلت: “لا أستطيع أن اتذكر، لقد كنت أضحك وأنا اتحدث في هاتفي، ثم نمت وأنا أضحك بعد ما قرأت رسالة اخي” هذا ما أتذكر
همهم بهدوء وقال: “إذًا دعينا نؤلف قصة!”
وجلت وتثاقلت نفسي أنه لا يصدقني، لو كان يصدقني لحثني على استعادة ذاكرتي، صمّت كثيرًا ورددت بيني وبين نفسي في حديث مخلص لله عزّ وجل -إلهي، منجي يونس من الظلمات الثلاث، نجنّي-
بثبات خطوت خطواتي نحو طاولة التحقيق للمرة الثانية، استجمعت شتات نفسي، سأخبرهم انني لا أتذكر، فأنا فعلًا لا أتذكر أي شيء. سألتني بهدوء وتلقائية:

” ما الذي فعلته في الساعة ١٢ صباحًا”
تراكمت الأصوات داخلي، كانت الإرادة أن أقول “لا أتذكر” لكنني أطرقت في صمت وسبحت في ظلامي.
طرقت بيديها على الطاولة وقالت في ترقب: “هل تتذكري ما حدث؟”
رفعت رأسي ونظرت لعينيها، تلك الظلمة في عينيها تشدني، عينيها تخبرني بشيء ما، همهمت قائلة “لا، يا سيدتي لا أتذكر” وانطلقت في صمت مرير.

 

5

الثامن من أغسطس | ١٠:٤٥ صباحًا

جلست مسندة ظهري للجدار، ثنيت ركبتيّ وضممتهما إلى صدري، طوقت يديّ عليهما واحتضنت ذاتي، ودخلت في بكاء شديد. حقًا ما الذي فعلته لأخوض هذه الظلمة، الله دائمًا يمتحننا في أشياء نستطيع تجاوزها، كنت أتساءل هل حقًا أستطيع تجاوز هذا الألم؟ لقد وصفوني بالقاتلة، لست قاتلة عادية إنما بشعة! لم أكن حقًا بذلك العنف في حياتي، وأشد ما استطعت فعله أن رفعت كفي ودعوت الله على من وضعني في هذا الموقف. لم أكن ذلك الشخص القوي الذي يأخذ حقه، وكثيرًا ما آثرت الصمت على الانتقام. كنت أمضي دائمًا وأخبر الله ما أصابني، كان الله في عوني لكن لا أعلم هل ما زال؟ رحت أدعي -يا الله اغفر لي يأسي وسخطي ونجنّي-
ضربت وجهي بشكل بائس وقلت لا بأس لنتذكر ما حدث! من البداية لنحاول.. حاولت مرارًا وتكرارًا تذكر ما حدث، كيف وصلت إلى هنا، كيف مررت بكل هذا دون أن أتذكر ولو جزءً بسيطًا، عبثًا حاولت أن استرجع ولو لمحة خاطفة عما حصل. لا فائدة. أعلنت حدادي البائس داخلي ورحت أفكر في حياتي الغامضة، أتذكر أني تخرجت حديثًا ووظيفتي المرتقبة تنتظرني، أتذكر أصدقاء واقعي، ثم للحظة توقف وكأنني تذكرت! أصدقاء واقعي؟ لماذا حددت واقعي؛ بالتأكيد لدي غيرهم! ولبثت أبحث عن منفذ يدخلني عالمي الآخر، لكن للأسف محاولاتي انتهت بالفشل، والفشل الكبير.

طرقت جرس النداء لأسأل الشرطية عن هاتفي المحمول لعلي أجد فيه ما عجزت عن تذكره، لكن أحدًا لم يجب. ورحت أفكر فيما أخبرتني به صباحًا

“هل تعلمين أنك قتلتِ شخصًا ما ودسستِ جثته في المطبخ تحت رخامه البارد”

أعتقد أن ذلك كان مرعبًا جدًا ليحصل، وما كنت أصدق مطلقا أني فعلت ذلك الفعل الشنيع، وتمنيت لو أن الانتحار حلالًا. واباشر في قتل نفسي بأبشع طريقة كما قتلت ذلك الشخص المسكين! إن كنت فعلت ما أخبرتني به حقًا.

لاحقًا جاءت وفي يدها كوب قهوة وبصمت سألت: “ما الذي أردته”
قلت في خشوع ظاهر وخوف مكبوت: “هل رأيتِ هاتفي المحمول، لعلي استرجع به شيئًا مما عجزت عن تذكره”
ولمحت شبح ابتسامه حين ما مالت شفتيها لليمين قليلًا وبهدوء ردت: “لا أستطيع احضاره لك، إنه دليل ملموس”

دليل؟ قلت في داخلي وكيف يكون هاتفي دليلًا؟ يا الله أفرغ عليّ صبرًا. ثم سألتها بصوت مسموع: “هل وجدتم به ما يُثبت جريمتي”
وأخيرًا تلاقت أعيننا في صمت عظيم، كأننا في صلاة خاشعة، نظراتنا مشفقة، وجلة، ومرتقبة. لكنها حقًا ابتسمت لي وجهًا لوجه وبحنان مدت كوب القهوة بلباقة قالت: “هوني عليكِ، واشربي! إن الله لا يزال موجود”

تركتني وصدى كلمتها يأن في رأسي، كيف استطعت أن أشكك بملازمة الله لي؟ كيف طاوعتني نفسي أن أنسَ من دبّر لي حياتي كلها. الله لا يتركنا مهما حدث، الله هنا ويساعدني فما الذي يُخيفني؟ بشر؟! نحن ضعاف كيف نسيت؟ وبكيت كثيرًا ندمي وقلة حيلتي وهواني ويأسي وخجلي الكبير من الله. ورددت كثيرًا -سامحني إلهي، سامحني- ونمت من شدة ما بكيت مُعلنة توبتي للإله.

 

6

الثامن من أغسطس | ١٢ ظهرًا

صحوت على صوت الباب يفتح بقسوة بالغة، رفعت نظري فإذا بذلك الشخص الطويل الضخم الذي أعرف أنني أكرهه وأمقت وجوده في المنزل وهنا ايضًا وفي أي مكان، أستطيع أن أقسم بأنه سعيد لما حلّ بي من بؤس، لكن عينيه كانت غاضبه وهي ما أخافه. تلاقت نظراتنا واستطعت سماع نبضات قلبي والخوف الذي تملكني والقشعريرة التي سرت في جسدي. سألت الله في خشوع كما هي عادتي أن يخلصني مما سيحل بي، لقد عرفت ما سيحدث من نظرته، وما استطعت أن أتفادى قبضته فقد رُميت إلى الأرض بقسوة بالغة. لم أتحرك، لم اتألم. لقد اعتدت على ذلك

دخلت الشرطية التي أُغرمت في عينيها، ورفعتني من على الأرض بصلابة شديدة وأشارت إلى الشخص الضخم بالخروج، لكنه أبى قبل أن يرميني بوابل من الكلمات التي اخترقتني وحولتني إلى قاتلة، جعلتني اصدق أنني حقًا قاتلة.
قال: “عار عليّ أن اعيدك للمنزل بعد ما فعلتِ، وإني لأتنمى من الله أن تتعفنّي هنا حتى الموت. وختم حديثه قائلًا “الشرف أولا” وغادر.

أفلتُ جسدي من قبضتها وجلست في ركن الغرفة بجوار السرير حيث سلسلتي الحديدية تبعدني عن الباب مسافة لا بأس بها، ضممت نفسي في حزن شديد ورحت أبكي، لم أبكِ لأن ضربه مؤلم بل بكيت لأن لا أحد هنا اعتمد عليه حتى والدي! ومن جديد همست باسمي وراحت تنظر لي بعينيها الواسعة الفاحمة ورموشها الجميلة، كيف لإنسان أن يستطيع رؤية الجمال حتى في عمق المصيبة؟ تمنيت لو أني أستطيع الدخول في عينيها والاختباء للأبد.

دخلت غرفة التحقيق، أنا والشرطية الجميلة ومحقق مخيف الوجه، شارد الذهن، مهيب الحضور. دفتر كبير وصور متعددة ورداء مليء بالدم، وبصمات في مختلف الأماكن، ووجه الجثة، أمعنت النظر بترقب ودققت في تفاصيل تلك الصورة المخيفة، العينين والأنف المرتفع والفم المتشقق وتلك الندبة! ذلك الوجه أعرفه! غمرتني قشعريرة وغثيان متواصل وخاض الدم في وجهي وشعرت بالدوار واعتقدت أني كنت على وشك الموت لولا يدها التي امتدت لي. بصلابة سألتْ: “هل أنتِ بخير؟”
مررت لساني على شفتيّ وابتلعت ريقي وهمست: “أعرفه”

وجلست بِقلة حيله على الكرسي البارد.
“إذًا أعتقد أنك تعرفتِ عليه” قال المحقق بابتسامة غريبة.
رفعت عيني، وكنت أتمنى أن أفهم ما الذي يرمي إليه، هززت رأسي بإيجابية.
ثم أردف “إذًا فهل ستعترفين أنكِ قتلته”
أردت أن أصرخ “أنا لا أتذكر” لكن محاولاتي كانت فاشلة، وصراخي لم يتعدى حنجرتي، بصوت مهزوز قلت: “لا أعلم، سيدي أنا لا أعلم”
“إذًا هل أنتِ بريئة”
واشتدت الهزه في صوتي وارتجفت، وسرحت هل حقا أنا بريئة؟ أنا لا أتذكر هل قتلت ذلك الشخص أم لم أفعل، اتذكر أني لا أحبه ولا أحب قربه، ولم أحب ملاطفته لي، ولم أحب كيف يتقرب مني كثيرًا، لكنّي حقًا لم أفعل! مستحيل أن أمد يدي لروح خلقها الله وأسلب منها حياتها من أنا لأفعل ذلك؟ من أنا؟
صوته الهائج أعادني للواقع وقال: “أجيبي، هل أنتِ بريئة؟”
كررت: “لا أعلم سيدي، انا لا أتذكر، لا أتذكر ولو لمحة عما حدث البارحة، لقد استيقظت وأنا هنا وأخر ما أتذكره أني كنت أضحك” وباغتتني دموعي.

راح يتحدث ويخبرني أن بصماتي منتشرة في كل مكان في المطبخ، والرداء عليه بقع من دمي، وأني الوحيدة التي تملك دافعًا لقتل ذلك الشخص، وشرح شرحًا مفصلًا وكأنه يتحدث إلى الجدران. أما أنا فقد كنت راحلة اتأمل الدافع الذي يخبرني به. كانت أطول ساعة في حياتي.

في لمحة من الماضي أمي تسألني “لماذا تبغضيه إلى ذلك الحد، صافحيه على الأقل”
وأجيب “أعتقيني لوجه الله يا أمي، لا أريد أن أستحث مشكلة قد مر عليها الزمن وتناسيتها”
وتصمت أمي وتقترب مني في وداعة “هل آذاكِ يا طفلتي؟ هل مد يده عليك؟”
لأحتضن أمي في حب، كانت أماني الوحيد دائمًا. ثم أجيبها “لا يا أمي! لم يفعل ما تظنيه”
وكنت أكذب، ولقد علِمَت أني أكذب، لكنها تجاهلتني وتجاهلتْ نظرتها تلك. واليوم تذكرتها وبكيت للمرة المئة في تلك الساعة, وهكذا انتهى ذلك اليوم الذي لا يُنسى.

كان ذلك اليوم شديد الحرارة، لا أعلم هل كان الصيف يودعنا أم يُقبل علينا أم كانت الحرارة في جسدي وأنا مُقيدة ذاهبةً إلى المحكمة، خطواتي ثقيلة، جسدي ثقيل، وصوتي قابع خلف ذكرياتي الضائعة وأنفاسي محبوسة، إن أشد ما يؤلم أن لا أحد هنا يصدقك أو يخبرك أنك على حق، لا تستطيع أن تثق بأي أحد سوى الله، وكنت كثيرًا ما أكرر -كان الله في عوني ولا زال- حتى لو لم تزل تلك المِحنة، الله معي وأنا أعلم واشعر أن الحقيقة ستظهر، لكن لا أحد يصدق أنني استعدت ذاكرتي وعلمت ما حدث ووجدت دليلا لبراءتي المنشودة. الكل يريدني قاتلة

 

7

توقفت عن عد الأيام. لا أعلم كم لبثت هناك قابعه في الظلام والذكريات المستعادة، ولكن ما الفائدة إن كنت قد استعدتها كلها دون أن يسمعني أحد؟ تزورني الشرطية مرارًا وتبث في خاطري الأمل، شعرت كما لو أنها مرشدتي الروحية، وملهمتي للصبر والإيمان. كانت كثيرًا ما تكرر: “الله يمتحننا لنصبر، لندخل الجنة، فأصبري واثبتي أنك مؤمنة بحق” وكنت أفعل ذلك واصمت كثيرًا وأدعو وأصلي. من فرط ما كنت أبكي وأصلي أشفقت على دموعي وتساءلت كيف لها إن لم تنفذ؟

اخيرًا قررت ما سأقوله في المحكمة أمام القاضي، هل يستطيع الظالم أن ينجو بفعلته ما دام القانون معه؟ مستحيل وأين العدالة إذًا! ذلك ما أخبرت به نفسي وتوكلت على إلهي وصليت ودعوت، وبخشوع تام وطاهر دخلت ورفعت رأسي كشموخ البريئين، تمتمت بيني وبين نفسي -ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق وأجعل لي من لدنك سلطانا نصيرًا- أعلم أن الله هنا ووضعت يدي على قلبي استشعر وجوده وتماسكت.

سردوا القصة المكررة الجانية فعلت هذا وذاك وعرضوا الأدلة المعتادة التي تؤكد جرمي، شرعوا في الادعاء وتجاهلوا مشاعري البريئة. وفي لحظة لو استطعت وصفها لقلت كانت كأنها النور في نفق مظلم.

التفت إلي القاضي وسألني: “هل لديك شيء تخبريني به”
حبست أنفاسي وبدأت شفتاي بالتقوس كأنها ستبدأ دوامة بكاء مرير، كان أول شخص يسألني عما لدي بعد ذلك المحقق، الكل تركني، حتى مصدر الأمان الذي حسبته لم يعد يزورني، وتركني كما لو كنت قاتلة بحق. لكن القاضي سألني وأخيرًا بعد أيام مريرة ودموع كثيره ولحظات موحشة.

تماسكت

ثم بدأت في الحديث كأني لم أتحدث دهرًا، شرعت في الشرح كأني لم أتكلم يومًا، شرعت أطهر روحي وأخبره صدقي، لقد تأكدت حينها أن الله معي، ولا يزال يكفلني برعايته، أقسمت على صدقي واخبرته دليلي، تذكرت مع من ضحكت ليلتها، ومع من تحدثت وكم كانت الساعة حينها، وتذكرت سبب فقداني لذاكرتي، لقد رأيت شيئًا شنيعًا جدًا، وبعدها ضقت ذرعًا وحبست خيالي.. وانتحبت انتحاب اليائس المعدم، وأظهرت ضعفي الذي أخفيته كل تلك الأيام، شعرت كما لو أنني طهرت روحي من دنس لم يمسنّي، وكلما تذكرت جثته ووجهه شعرت بغثيان يفوق احتمالي وانتحبت.

الحكاية

في تلك الليلة نزلت إلى المطبخ، ورأيت خيال أحدهم فيه، رخام البلاط متزحزح وأثار ماء كأن الأرض غُسلت، تراجعت وأنرت المنزل كله، ناديت على إخوتي لكن أحدهم لم يُجب، شخصٌ ما ظهر أمامي وابتسم ابتسامة مريبة وتمتم “ضريبة أن يرى المرء شيئا لم يُقدر له”  ثم اختفى.
واليوم وبعد مرور شهور عِدة علمت ما تلك الضريبة، فأنا لم أعد أنا، الضحكة غابت والأهل تغيروا والرفاق تشتتوا، أنا المتبقية مني أتقلب بين الحياة، من العمل إلى المنزل، المنزل الوحيد الخالي تمامًا الذي يملك غرفتي الوحيدة ودورة مياه والأكيد أنه بلا ”مطبخ“.

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.