أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : نوستالجيا

كتابة : عبد العزيز الريسي

 

(1)

‏بدأتُ يومي بِذُعرٍ تامٍّ وبِحالةٍ مُعتادةٍ من القلقِ والتوتُّر. فيما مضى، تألّمتُ كثيرًا، ولا زلت، حتّى هذه اللّحظة أشعرُ بألمٍ حادٍّ في قلبي، روحي وأحشائي. وقد أيقنتُ فجأة، وهذا أمرٌ لا شكّ فيه، بأنّني لا شيء.
‏كنتُ أمشي في موجةِ صقيع في ليلةِ ما، في الشّارعِ التّاسعِ من البلدة، وبدأتُ أُفكِّرُ بِطفولَتي، وأدركتُ أنّ لا طفولةَ لي، وبغتةً شعرتُ بأنّني كنتُ أعيشُ بِجهلٍ تام، وأنّني كنتُ طِفلًا غير مرئيّ، وأنّني أبقيتُ مسافةً بيني وبينَ الحياة. لعلّها كانت خطيئة، فقد أصبحتُ بعدها دائِمَ الغِياب، مِمّا جعلني شبحًا وحيد. سيطرت عليّ التّعاسةُ في تِلكَ اللّيلة، وبدأتُ بعدها أُفكِّرُ بِمرحلةِ شبابي، ولكِن ذلك لم يدُم طويلًا، فقد اقتنعتُ تمامًا بأنّني عامًا بعد عام أزدادُ جهلًا لحقيقتيَ الغامِضة، وأنّني لم أفِق بعد منَ الغَفوة الّتي دامت طويلًا.
‏توقّفتُ عِندَ جذع شجرة، وتخيّلتُ الموْت. خلتُ دومًا بأنّه أمرٌ سيّءٌ شديدَ السوء، وموضوعٌ يبعثُ الحزن، ولكنّ الموت، في بعضِ الأحيان، هو صورةٌ مِن صورِ الرّحمة، وبورتريه لإنسانٍ مُتألِّم.
‏جلستُ لاحِقًا في مقهى، وبقيتُ هُناكَ طوالَ اللّيل، وكنت، كما كنتُ في طفولتي، غيرَ مرأيّ. وفي تِلك الأثناء لم أكُن أُركِّزُ بِشيء، لا لِلضحكات، ولا للقصص العابِرة، ولا لأيّ مُرتادٍ للمقهى. لقد اعتدتُّ على هذا الصّمت، وبالرّغم من كل الأشياء الّتي كانت تحدثُ من حولي، أحسستُ بأنّني أخلو مِنَ الشّغف اتِجاه جميع الأشياء، وبِالرّغم مِن ذهابي لِلجامِعة، وقِراءتي لِلكُتُب، واستماعي لِلموسيقى، وتناول أطرافَ الحديث مع النّاس، شعرتُ وكأنّني لم أكُن حاضِرًا، غائبًا وجاهِلًا لِلحقيقة الّتي لطالما بحثتُ عنها.

 

(2)

لم أتمكّن من الجلوسِ في المقاهي
‏ولا دورِ العرض
‏ولا الدّكاكين.
‏السّنواتُ تمضي
‏ولا أعرِفُ من أنا
‏وإلى أيْن أمضي.
‏في ضواحي روحي
‏ودكاكينَ قلبي
‏أتوهُ بِلا وجهة.
‏يؤلِمُني العيْش
‏ويؤلِمُني الواقِع
‏وأنا عابِرٌ لا أصلحَ لأيِّ شيء.

‏إنّني على يقينٍ تام بأنّني لن أتمكن من إكمال هذه المسرحية.
‏استلقيت في العُتمة وبيدي لُفافة تبغ، وعلى نحوٍ غامِض، بدأتُ بتلحينَ اغنيةً قديمةً مُشبعةٌ بالسّوداوية، وفيما بعد، سافرتُ لِلماضي ولمحتُ كُتُبًا ورسومات، ورأيتُ نفسي لاحِقًا أُطارِدُ قطّة، وفجأة، رأيتُ نفسي مُستلقيًا وحيدًا شاعِرًا بالخوفِ في غُرفةٍ مُظلِمة. اختفى كُلُّ شيء، الكتُب، الرسومات، القطة، وبقيتُ وحيدًا في الغُرفةِ. وددتُ أن أقرأ، أجمع الرّسوماتِ وأتوقّف عن مُطاردةِ القِطّة، وددتُ أن أجمع شُذرات أحلامي وأنثرُها على الرّسومات، أن أُغنّيَ لِلقِطّةَ وأُداعِبَها، ولكِن ما باليدِ حيلة، كنتُ غارِقًا في سُبات عتمتي.

(3)

‏لا زلتُ مُستلقِيًا على الفراش، ولا زلتُ غائِبَ الذُّهن.
‏لم أذُق طعمَ الرّاحة طيلةَ الأعوام الأربعةِ السّابِقة، وحتّى إنّي، ويا للأسف، نسيتُ معنى تِلك الكلِمة، بحثتُ عنها في أماكِنَ عِدّة ولكنِّي لم أجِدها. والآنَ، وبعدما استسلمت، لم أعُد أهتم، وأنّ الحياة، بالنِّسبةِ لي، أصبحت منزِلًا مهجور، شاهِدَ قبرٍ مُحطّم، ووجهٍ بِلا ملامِح.
‏حاولتُ أن استجمِعَ قِواي، ولكِن ليسَ من أجلِ البحثِ عن حياتي مرّةً أُخرى، وإنّما لإنهائها.
‏بِمجهودٍ بائِس، وبعد مُحاولاتٍ عِدّة، وبعد إثني عشرَ خُطوة، وقفتُ على النّافِذة. ولكِن، في لحظةٍ غريبة، تذكّرتُ أُغنيةً كتبها السّيد “روجر واترز”، في أوائِل ثمانينات القرن الماضي، وفي تِلك الأُغنية، يمسِكُ رجلٌ شَفرةً حادّة، مُستعِدًّا لِفِعلها، وفجأة، وفي آخرِ لحظة، يرنُّ الهاتِف، ويتراجع.
‏نظرتُ لِورائي، ألقيتُ نظرةً على الباب وهاتِفي، ألن يوقِفني أحدٌ الآن؟

 

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.