أدبقصص قصيرة

قصة قصيرة : ظلّ صامتاً

كتابة : خالد الشعلاني

تدقيق لغوي : محمود عابدين

 

يشعر سالم في هذا التوقيت من العام أنه أسعد إنسان في الدنيا. حلّ الصيف، وبلغ الثانية عشر، ووصلت العطلة بعد أن كان يفكّر بها كثيراً قبل حلولها بشهرين، ويتخيل ما سيحصل بها، من قدوم أصدقاءه الذين يعيشون في مُدن أخرى بعيدة، يتخيّل رؤية أوجههم واللعب بالدراجة الهوائية معهم، إلى ذهابه مع أهله للسفر، كان يبتسم وهو يتخيّل كل هذا. كان يشتاق لأصدقائه كثيراً لأنه لا يراهم إلّا مرتين أو ثلاثة مرات فقط بالسنة، وينسى أشكالهم في أغلب الأحيان ممّا يدخل في بطنه إحساس مؤلم وشعور بالوحدة، أمّا أمل التي تصغره بعام فكانت تغيب كثيراً وسمع أنّها ذهبت لتسكن مع أبيها بعد أن طلّق أمها، ولكنه فرِح عندما قالت له أمه أنّها ستأتي.

 

بعد مرور أول أسبوع من العطلة أيقظته أمه من النوم وأخبرته أن أقربائه (والذي يسمّيهم أصدقاء) قد جاؤوا وهم في انتظاره في المخيّم الذي حجزته لهم في الصّحراء. تسارع قلبه يضرب بقوّة كأنه يريد أن يخرج من صدره ويهرب، وارتسمت أبتسامة واسعة على وجهه الحنطي.

 

أول من أستقبله في المخيّم هو أحمد الذي كلّ ما فكّر به، يتخيّل أنه يضحك طوال الوقت، فهو بالحقيقة إنسان يحبّ الضحك والمزاح كثيراً، ومع أن قلبه طيّب إلّا أنه إن غضب لن يتكلّم مع من أغضبه إلّا بعد أيام، ويأتي مبتسماً يحمل طُرفه كأن لم يحدث شيء.

 

رفع أحمد يده أولاً يصافح سالم الذي كان خجولاً ومضطرباً ولاحظ أحمد ذلك. دلّه أحمد إلى صديقيه الآخرين، أمل وأديب، اللّذان كانا في خيمة صغيرة بجانب الخيمة الكبيرة حيث يتواجد بها الضيوف والمضيفين. كان أديب ابن خاله، أما أمل وأحمد كانا ولدَي عمّته. توسّعت عينا أمل وأديب عندما رأيا سالم واشتعلا حماساً وتبادلوا جميعهم الحديث وروا لبعضهم البعض قصصاً حدثت لهم في العام الماضي، وقال أحمد أنه عندما كانت اخته مع أبيه قبضت عليه الشرطة في قضية اشتباه بقتل ولكن تبيّن أنهم أخطؤوا الشخص، وضحكوا جميعهم على ذلك.

 

خرجوا وجلسوا على التراب ينظرون ويتأمّلون الظلام البعيد الهابط على الصحراء. فاجأهم كلب ضمآن وتقدّمت له أمل وسقته ماء. كانت السماء مغطّاة بسحب صيفيّة خفيفة وتخيل سالم أنه في حال انطفاء أنوار المخيم لا يمكن لأحد في المخيم أن يرى شيئاً مطلقاً.

 

عندما عادت أمل قالت متحدّية: “أتحدّاكم أن تأتوا معي إلى الظلام”. نظر سالم إليها وتذكر أنها أجرأهم ودائماً ما تقودهم في اللّعب وفي كل شيء. كانوا ينفرون منها حينما يُجن جنونها، فهي تغضب بسرعة وتضربهم في بعض الأحيان ورغم أنهم أقوى منها جسدياً إلا أنهم لن يجرؤوا على لمسها. ولكن من جهة أخرى وبطريقة غريبة كانت أرحمهم قلباً وتحبهم أكثر من حبهم لها.

 

استأنفت قائلة: “هل أنتم خائفون أم ماذا؟”.

“وإن ذهبنا ماذا سنفعل في الظلام؟” قال ذلك سالم وهو يرسم على التراب.

قالت أمل: ” لماذا بلعت ريقك؟ فهذا دليل على الخوف”.

“وما أدراك؟”.

“أبي أخبرني ذلك”.

 

نهض أحمد الذي نوى أن يخفي ضعفه عند أخته، ونهض معه أديب. مسكوا يدي سالم لينهضوه ويقنعوه وحينها أدرك سالم أن كبريائه قد مُسّ نهض.

 

ذهبوا من خلف المخيّم كي لا يلاحظهم أمّهاتهم وآبائهم. كان الصمت يبتلعهم كلّما ساروا إلى الظلام. ومن شدة الظلام لم يستطع سالم من رؤيتهم أو حتى من رؤية يديه. حسّ ببرودة فوق كتفيه وشعر من شدة الخوف أنه عارياً.

قال لكي يتأكد أنهم حوله: “هل سنتوقف؟”.

“هل أصابك الخوف؟” قالت أمل دون أن يراها.

همس سالم: “أديب”. لم يجبه. “أديب”.

قالت أمل معه: “أديب!”.

همس سالم: “أحمد!”.

أجاب أحمد: “أنا بجانبك”.

قالت أمل: “أظن أن أديب رجع من شدة الخوف”. وأضافت وهي تصيح: “أديب!”. ولكن أحداً لم يجبها.

 

ساروا كثيراً حتى شعر سالم بركبتيه تؤلمانه من التعب. توقف فجأة حينما أدرك أنه يسمع خطوات رجليه فقط. ثقلت أنفاسه وتسارع ضربات قلبه وعرق جبينه، وشعر كأن طُعن بسكين في بطنه. لم ينادي بل ظلّ ساكتاً للحظة لأنه يخشى ألا يرد عليه صديقيه، ويأتيه اليقين. سار وركبتيه ترتجف حتى اصبحت أنفاسه الثقيلة تشبه البكاء وصاح أخيراً بصوت مكسور وحزين: “أمل! أديب!”. كان فخذيه يرتجفان بشدة حتى أنه لم يستطع السير فتوقف. أدار رسأله ولم يستطع من رؤية المخيم.

 

السحب رفعت حصارها عن القمر وحينها أدرك أنه وحده، فانفجر بالبكاء المكتوم في صدره والذي آلمه. كان الطعنة التي في بطنه تتصاعد ألمها والرجفة في فخذيه زادت. بدأت ملامح الصحراء تظهر له بفضل القمر ولكن لم يجد المخيم. شعر بالإغماء فجثم على ركبتيه وهو يبكي ووضع يديه على وجهه. رأى من بين أصابع يديه أمل تقترب منه. نهض وهلع إليها واختفى البكاء بمعجزة وارتسمت ابتسامة على وجهه، عندما اقترب منها قال بثقة: “أين كنتم؟”.

لم تجبه أمل. اكتفت بمسك يده وسحبه.

“إلى أين تجرّيني؟”.

“إلى المخيم”.

ساروا لدقائق وسط الظلام.

سأل سالم:”أين أديب وأحمد؟”.

“في المخيم”.

سار معها كثيراً حتى رأى كوخ خشبي قديم.

“هل سندخل الكوخ؟”.

أجابت أمل: “نعم”.

تصاعد الصمت بينهما عندما اقتربا ودخلا الكوخ. كان ثمة روائح كريهة وغريبة بداخله، تشبه رائحة الفحم وقريبة من رائحة اللحم. طافا داخل الكوخ حتى دخلا الردهة المُنيرة بضوء الشموع المعلقة على الجدران. كان ثمة خمسة جالسين على أريكة الردهة، يغطّون أوجههم بأقنعة سوداء.

سأل سالم: “هل تعرفينهم؟”

مدّت يدها إليهم لتعرفهم له وقالت: “هذا أبي.. وهؤلاء أخواني وأخواتي. نعيش هنا منذ زمن طويل جداً”.

نهضت إحدى الجالسين ويبدو أنها امرأة ومسكت بيد سالم  وسحبته وهي تقول: “ستذهب معي إلى الأعلى”.

بينما كانت تسحبه إلى السّلم قالت أمل خلفه: “سيرضى عنا.. سنضحي بهم.. لن يغضب”.

 

صعد سالم بصحبة الامرأة وأدخلته في حجرة مظلمة.

صاح سالم بينما كانت تقفل الباب: “لحظة.. انتظري.. من أنتم؟”.

كان يتمسّك بالجدران وهو عابساً من شدة الحيرة. لمس زر المصباح وضغطه وأنيرت الحجرة. رأى جثة أحمد وأديب ملقتين على الأرض، لونها أسود، ومع أن جثتهما قد أُحرقت إلا أنه تعرف على وجههما، فصرخ صرخة هزّت الكوخ وسقط مغشياً عليه. لمّا استيقظ دخلوا عليه رجال وهم يغنون أغنية بلغة غريبة وتبدو قديمة، ومسكوه وأخرجوه من الكوخ. وجد سالم أمل خارج الكوخ عند عامود خشبي طويل وكان بيدها حبلاً سميكاً وخشناً. أوقفوه عندها وعقدت الحبل بيديه بينما كان يبكي بصوت قصير جداً وهو ينظر إليها بحيره. ثبّتته على العامود وسكبت البنزين عند رجليه ورأسه وبطنه وعلى العامود ثم أخذت ولاعة وقبل أن ترميها قفز عليها كلباً تعرف عليه سالم، إنه الكلب الضمآن عند المخيم. كان بصحبته أربعة كلاب قفزوا على أبوها والباقين. تمكن سالم حينها من الفرار ويديه مقيدة.

 

ركض بهلع لدقائق بوجه مصدوم لا يبكي وبقلب حنون يبكي. شعر أنه أمضى الليل كله وهو يركض. رأى سيارة الشرطة وأوقفته وكان من الركاب أمه وأبيه اللذان عانقوه وهم يبكيان وسألوه: “أين أصدقاءك؟”.

 

ولكن ظلّ صامتاً لا ينطُق.

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.