أدبقصص قصيرة

‏قصة قصيرة : في التاكسي… بِرُفقة الموت

وجدتني أسألُ نفسي عِندما مات والدي: “هل كان الموْت قريبًا منه؟” وعلِمتُ حينها أنه صاحب الموت طوال حياته، كان في الخامسةً الستّين مِن عمره، لا زوجةً تعتني به، ولا أصدقاءً يلتقي بهم، فقط تِلك الجُدران الأربعة التي أصبحت باهِتةَ اللون، وتِلك الحشرات التي تعيشُ على بقايا طعامه. لقد اختار العُزلة، ولهذا، حاولت أن أقترِب منه، ولكن، وللأسف، وجدتُ نفسي تائهًا، لم يكُن هُنالِك أيّ تقدُّم، ولم أتمكّن من الاقتراب منه. لقد عاش مع الموتُ، أكل مع الموت وشرب، دخّنا في غُرفةِ المعيشة وشربا القهوة، عاشا قريبيْن من بعض حتى استأذنه في ليلةٍ ما وقال: “وقتُك انتهى يا س، يجِبُ أن آخذُك لِلحياةَ الأُخرى.”

‏وبهذه الأحداث، وبهذه الحياةَ الانعزالية التي عاشها، رحل، وعِندما وصلني خبر وفاته، كنتُ في التاكسي أوصِلُ رجُلًا إلى دارِ العرض، وكانت الأجواءَ مُشمِسةً والهواءُ يتسلّل من فتحات نوافذ السيّارة. أغلقتُ الهاتِفَ وبدا كُلّ شيئًا لي مُظلِمًا، أصبحَ الهواءُ باردًا بعدما كان دافِئ، وتسلّل السحابُ فغطّى أشِعّةَ الشّمس، أمّا عنِ الرّاكب، فتوقّف عن الحديث بعدما كان يتكلّمُ بِحماس عن الفيلم الذي سوف يُشاهده.

‏بدأ الموت يُلاحقني لِمُدّة سِتةً وثلاثين عامًا، ظهر لي كثيرًا، وجلس معي في خلوتي، كان مُرتبِطًا بِأبي، وها هو الآن، يُطاردني أينما ذهبت. المرّةَ الأخيرةَ التي رأيتُه فيها، كنتُ في التّاكسي أعمل، وكان جالسًا في المقعد الخلفي صامتًا، حتّى كسر زُجاج الصمت وقال:

‏- لقد أصبحت كوالدك يا ك.

‏وأكمل:

‏- أنت تعيشُ في عالمٍ وهمي، مسجونٌ في روحك، روحك المليئة بالبؤس، ولكن بالرّغم من ذلك، لا تُريدُ أن تموت.

‏قلت – نعم، أُريدُ ذلك.

‏- ما الذي تنتظِرهُ إذًا؟

‏- أُريد الإيمان.

‏نظرتُ لهُ وأكملت:

‏- ما الذي سوف يحدُث لي؟ وللذين لا يؤمنون بشيء؟

‏- إنك قلِق. قال

‏- تزورني في خِلوتي، وتُحدّثني، وتأتي الآن تسألني عن القلق؟

‏- لقد كُنت بجانبك يا ك، كنتُ بجانبك طوال حياتك، مِثلما كنتُ بجانب والدك. لستَ مُستعِدًّا للموت، فروحك ليست مُستعدة، لستَ قلقًا بشأني، إنك قلِقٌ بشأن ذلك الإيمان الذي تتحدّثُ عنه.

‏- ما الذي جعل والدي مُستعِدًّا؟

‏- إيقانه أن الموت ليس النهاية، إنما بِدايةً للحياةِ الأُخرى.

‏- وماذا عن الرب؟ هل سيغفُر له؟

‏لم يرُد، وبعدها، نظرتُ لِلخلف، واختفى.

 

كتابة : عبدالعزيز الريسي

About Author

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاركنا رأيك

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

لدعمنا يرجى إلغاء تفعيل حاجب الإعلانات، نؤكد لك أن موقعنا لا يحوي إعلانات مزعجة أو منبثقة.